“الواق واق” ودونكيشوتية الواقع العربي
بعد تجربة ضيعة ضايعة بجزأيه الأول والثاني، والخربة،يقرر الثنائي المخرج الليث حجو والكاتب ممدوح حمادة الخروج من نطاق البيئة المحلية الضيقة إلى بيئة افتراضية أعم وأشمل في “الواق واق” الذي انتهى عرضه مؤخرا على إحدى القنوات السورية ولم يأخذ حقه من العرض على قنوات أخرى، رغم إنتاجه للموسم الرمضاني الفائت، وكان يعول عليه نجاحا لايقل عن سابقيه، لأنه يخاطب دائرة بشرية أوسع ويعري واقعا عربيا مهترئا وميؤوسا منه.بعكس شقيقيه السابقين اللذين غرقا في المحلية الضيقة وحظيا بجماهيرية لم يحصل عليها عملا دراميا منذ مسلسلات “صح النوم” و”حمام الهنا ومقالب غوار” أيام الأبيض والأسود والثنائي دريد ونهاد.
نحن نعرف أن الواق واق هي جزر وهمية لاوجود لها على أرض الواقع وقد ذكرت لأول مرة في حكايا ألف ليلة وليلة، لذلك لجأ إليها صناع المسلسل،كتوظيف دلالي، لإعادة قراءة وتحليل الواقع العربي بأسلوب تهكمي ساخر يقارب الكوميديا السوداء أحيانا،عندما يجعلنا نضحك من واقعنا وحالنا المتردي، دون أن يتعرض للمساءلة والرفض من محطات التلفزة العربية. مغامرا، بذلك،بهويته البيئية(لهجة ومكانا)التي لعبت دورا مهما في نجاح العملين السابقين، رغم حضورها في لهجة شخصيتي طنوس وعبدو غلاصم.
يحقن (الواق واق) مشاهده بجرعات يأس شديدة المفعول تصل إلى مستوى الدونكيشوتية في محاربة طواحين الهواء ذلك الفارس الهزلي الذي ابتدعه سرفانتس الاسباني للسخرية من حكايات البطولة الوهمية التي درجت في تلك الأيام،
يبني كاتب النص عليه حكايته ليبين عبثية محاولات التغيير نحو الأفضل التي تتطلع إليها الشعوب العربية المحكومة بأنظمة تعيق كل أشكال التقدم والتطور في مختلف المجالات.
سبعة عشر رجلا وامرأة هربوا بأحلامهم وأمانيهم منهم من نجا بعد غرق باخرة تقلهم إلى بلاد المهجر لجأوا إلى جزيرة لا سكان فيها وعليهم التأسيس لمقومات حياة ومجتمع جديد نواتها رجال ونساء يحملون أفكارا وأهواء وميولا متنوعة ومتناقضة هم نموذج لكل التيارات السياسية والفكرية المتصارعة داخل المجتمع العربي وعليهم إعادة بناء كيان جديد هو”درة الزبد”. الجنرال الديكتاتوري المولع بالسلطة وعميل البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية)،والفنان الثورجي ومغنية الأوبرا، السياسي المطلوب وضابط الأمن، المحامية والدكتورة وعالمة الآثار والمهندس، المتزمت والمتحررة، القبطان وعمال السفينة، رجل “البزنس”والمزارع البسيط، خليط متنوع عليهم أن يتعايشوا معا ويعيدوا إحياء التجارب ذاتها التي مرّ بها المواطن العربي من الاشتراكية و”الكموني” إلى الرأسمالية،ليبين سبب فشلها ودور العقلية العربية الفاسدة والإرادة المستلبة أمريكيا وأوروبيا في هذا الفشل، الذي يعيد الكاتب قراءته من جديد عبر نص يجيد فيه توظيف الجملة الساخرة اللاذعة دون افتعال للحركة والمفارقة. حلقات منفصلة تعتمد على طرح ومناقشة أفكار تجعل المشاهد يستمتع بالحلقة الواحدة كموقف دون أن يضطر لتحمل رتابة حلقات الحكاية المتسلسلة، وهو أسلوب اثبت نجاعته جماهيريا في أغلب الأعمال المشابهة كمرايا ياسر العظمة وبقعة ضوء وضيعة ضايعة والخربة وغيرها.رغم الرؤية الإخراجية التي تعثرت أحيانا في إيجاد الحلول المنطقية المقنعة لبعض التفاصيل المثيرة للاستفهام جماهيريا التي تعتبر بالنسبة لصناع المسلسل مجرد تفاصيل لاقيمة لها وتحصيل حاصل لاأكثر أمام الحامل الفكري النقدي الهام والمقولات الكبيرة،مع أنّ أعمالا فنية عديدة تناولت موضوع غرق سفينة ولجوء بعض الناجين إلى جزر مهجورة وكان ديدنها الأساس التركيز على أدق تفاصيل استمرار الحياة والبقاء والتأقلم مع الواقع الجديد والمتغيرات الانفعالية الإنسانية التي يمر بها من يخضع لهكذا تجربة،والبحث عن سبل النجاة التي لم يسع إليها سكان”درة الزبد” في الواق واق إلا بعد ثورة الأول من نيسان وطغيان الجنرال عليهم، فالأكواخ الخشبية في الواق واق كيف بنيت وبأي معدات، والمعلبات والشكولاته من أين مصدرها بهذه الكمية، واللغم الأرضي الذي سقط عليه الجنرال فجأة في الحلقة الأخيرة كحل إخراجي لنهاية مفتوحة وبجانبه هيكل عظمي مكتمل، للدلالة على وجود ضحايا آخرين للألغام في هذا المكان، مع أن انفجار لغم بشخص ما لن يبقي فيه هيكلا عظميا، كلها تفاصيل ربما كان من الأجدى تبرير وجودها بدلا من القفز فوقها لإفساح المجال أمام الطروحات المصيرية عن التاريخ المزور الذي يكتبه أشخاص وفق أهوائهم الشخصية وعن الشعوب الخانعة والأذناب التابعة والناس المتكبرة والمتسلطة والثقافة المسلوبة، وعبثية الحياة في عالم عربي وصل إلى طريق مسدود،وغيرها، لتأخذ حقها بالتحليل والمناقشة والاستهلاك الدرامي. ربما كان الأجمل في “الواق واق” هو فريق العمل الذي شكل مع المخرج والكاتب فريقا متناغما ومتفاهما هذا الفريق الذي شاهدناه مبدعا في ضيعة ضايعة والخربة يواصل في هذا العمل مسيرة الإبداع والكوميديا الراقية والهادفة الحاملة للطفرات المشغولة بحب وحرفية عالية لا استهلاكية ومادية، من شخصية طنوس شيخ البحر التي كرست الفنان باسم ياخور كوميديانا أول في الدراما السورية إلى شخصية عبدو غلاصم التي وضعت الفنان حسين عباس ضمن قائمة نجوم الصف الأول، والفنان رشيد عساف بدور “المارشال دبل ركن مش مح عرفان الرقعي” الدور الذي تفوق فيه على كل أدواره السابقة، والفنان العفوي جدا جمال العلي بدور الفلاح ابو دقور هذا الفنان الذي لايكرر نفسه مرتين رغم اللهجة التي تلازمه في أغلب أدواره لكنه يبدع في “الكركتر” المناسب لطبيعة كل شخصية، وكذلك شخصية المتزمت التي أداها المتميز مصطفى المصطفى الجديد على فريق الليث حجو وأيضا أنس طيارة بدور الخريج الجامعي ولازمته التي راجت جماهيريا.
حقيقة كان عملا متميزا نجح حجو في إدارته واختيار موقع التصوير ليبني فيه عالمه الدرامي رغم تأثير نخبوية طروحاته على سوية جماهريته.لكن عرضه على القنوات السورية الحكومية في الأيام القادمة،في حال تم،ربما سيكون له وقع خاص.
آصف ابراهيم