ثقافةصحيفة البعث

“معرض مؤجّل” ..اللّوحة المعلّقة على مشجب الرّيح

 

في المزايا الفنّيّة للقصّ
الخلطة الروائيّة الفنيّة التي شكّلتْ تفاصيل الجزء الثاني من رواية د. “هزوان الوزّ” “معرض مؤجل/اللوحة الضّائعة” الصادرة عن دار الفارابي/ بيروت عام 2018م. لم تختلف كثيراً عن مكوّنات الجزء الأول منها، من حيث تعدّد الأصوات الساردة مع تحكّم مطلق للرّاوي العليم بكلّ تقوّلاتها وأفكارها وهواجسها، والتّوالد السردي للحكاية من قلب الحكاية، كمحاكاة للسّرديّة التّاريخيّة الكبرى ألف ليلة وليلة. حيث ما إن يتناول السارد حدثاً معيّناً حتى يشرد متقصّداً نحو شذرات وأحداث وجزئيّات أخرى تبدو لوهلةٍ بعيدة عن الحدث الأساسي، لكنّها سرعان ما تجد تمفصلاتها ضمن البنية الكليّة له، دون إخلال أو ضياع، مشكّلةً شبكة من الخيوط العنكبوتيّة الدقيقة التي من شأنها ردم ثقوب السّرد العام. وهذا يعكس انتباهاً معرفيّاً وتوظيفاً فنّياً للتّفاصيل والهوامش الدقيقة التي تشكّل عمق اللّوحة السرديّة، بل المشهد الحياتي بأفقيّته وشاقوليّته عموماً، لتكتمل لعبة الحكي عبر تداخل زمكاني للحاضر السوري ــ الذي يحتضن الحدث العالي التراجيديّة، أقصد الحرب وانعكاساتها المدمّرة على روح وكيان الفرد والمجتمع ــ مع الماضي الشبيه به، منطلقاً لتشكيل خيمة من التشوّفات والآمال المستقبليّة التي تحاول رسم خارطة للقادم المأمول به، القائم على التعدّديّة واحترام الآخر عبر أسس جديدة تقوم على الحوار معه والاعتراف به كمكوّن أساسي من مكوّنات النّسيج الاجتماعي لا إلغائه أو تهميشه. هكذا يقلّب الكاتب برشاقة سرديّة عفويّة حدَثَهُ من وجوه مختلفة عبر محاولته إيجاد معادل نصّي تاريخي يراه منعكساً في مرآة الحاضر، كوجه آخر للحكاية، أو السّعي لتشكيل نصّ حديث يبرز من خلاله ما استبطنه طرحه الثقافي ووارته جملته الأدبيّة، فاليوم أشبه بالأمس مع اختلاف شكلي بأسماء القوى المتحكّمة بإدارة عمليّة الصراع التاريخي بتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة.
ولعلّ الإكثار من المونولوجات الدّاخليّة المكثّفة للزمن النفسي عند سارده العليم، أتى ليعوّض غياب الحوار الخارجي “الديالوج” بين شخصيّات العمل، ليبقى السرد متدفّقاً عبر لوحاته الاثنتي عشرة، يسرّع من حركة الزمن وانهماره ليبدو سيّد المشهد، ويتبعه الوصف كظلٍّ وفيّ محاولاً إبطاء حركيّته أثناء تثبيت وتكثيف حالة معيّنة أو شذرة أراد لها الكاتب أن تشكّل بؤرة تتقاطع فيها أشعّة الحدث وذلك بهدف تعميق حالة التلقّي والتفاعل إزاءها، وكما نجح الكاتب في تمرير تيار من السخريّة والمفارقات سابقاً، كذلك فعل الآن. تلك السخرية والتفكّه اللّطيفين اللذين عكسا نقداً مباشراً للأوضاع بتجلياتها المختلفة، وساهما بضخّ جرعات من المتعة والتشويق على القصّ. وهذا بدوره ساعد في انتشال القارئ من رتابة السرد. يقول: (بعد أن ذهب الجميع إلى دفن المرحوم، أسكنه الله فسيح جناته على التوقيت الرائع في الموت.. جلسنا وحيدين في الغرفة). أو (دخلتُ كليّة الفنون الجميلة وحلمتُ بالفنّ حتى أرى هذا المشهد، لكن ويا للأسف كان أبو صطيف هو الموديل بدلاً من أم ميساء). وهاهي جماليّة الوصف تُضفي المزيد من الحيويّة على الروح اللونيّة، لتكتمل لوحة الألفة بين الذكورة والأنوثة بامتلاء فراغات المشهد، يقول:(اقتربتْ منّي وجلستْ، وأمسكتْ يدي ووضعتْ أصابعها بين أصابعي، الآن عرفتُ لماذا خلق الله الفراغ بين الأصابع، ترك المجال لأصابع أخرى لتعيش بينها ولتشكل قوس قزح يشعّ بألوانه في الفراغ الموجود في الغرفة). لكن “اللّغة” هي ما كان ينقص الحكي، لتعلو مباهجه أكثر والتي ظلّت للأسف أقرب إلى العاديّة المباشرة، فالأدبيّة والتّخييل هما مقياسا العمل الأدبي، ولا يعيق ذلك انتماء العمل إلى المدرسة الواقعيّة النقديّة كشأن روايتنا هذه، فأدب “حنا مينه” كان ينضح باللغة الشاعريّة رغم انتمائه إلى الواقعيّة الاشتراكيّة وأدب الالتزام، وهناك بعض الهِنّات الأسلوبيّة التي كان من الممكن تلافيها بإضافة حرف جر أو ضمير ما، مثل: (..كما يترنّح مخمور يعصف برأسه خليط من أكثر جنس من الخمر) أو (..فأكثر من مدير دائرة أصغر من أن يكون رئيساً لقسم).
النّقد ولكن
حاول الكاتب من خلال سارده العليم المنتمي إلى ثقافة الحبّ والجمال تبيان تهافت الرؤى الأيديولوجيّة بمشاربها المختلفة من قوميّة وماركسيّة وما بينهما من أصوليّات تنطلق حسب زعمها من النصّ المقدّس، وبيّن قصور هذه الرؤى عن الارتقاء إلى مصافي الفكر الرّوحي البديل القادر على تشكيل رافعة أمل لوعي إنسان الحرب الذي عاش المآسي واكتوى بالمرارات حتى الرمق الأخير، ولم يجد ما يمكنه الاطمئنان إليه، يقول: (حزنتُ على الوطن، لأنه لم يستطعْ الاستفادة من جمال طبيعته في تحسين سلوك الناس وتثقيفهم جماليّاً، حتى في غوطة دمشق الناس اختصروا الجمال في عبادة الله فقط، لم يستطيعوا التعبير عن حبهم للجمال إلا في العبادة، وهذا ما تعلموه في حياتهم). وهاهو ينتقد ثقافة البيئة في تعاملها مع الجسد وطاقاته الكامنة التي تحنّطه في قوقعة التّابو وتعليه أيقونة غباء وجهل ترسم حدودها مقولتا الحلال والحرام التقليديتين، ما يحرم الكائن “أنثى وذكراً” من استثمار ذكاء الجسد في إضفاء المزيد من الجماليّات على الحياة. يقول: (أغلبُ العلاقات العاطفية في مجتمعنا هي سرقة أو اختلاس من الزمن، ومن أعين الناس، لذلك أجسادنا دائماً متوتّرة وعصبيّة وغبيّة في الحب، الأجساد مثل العقول، إذا لم تعشْ الحريّة والاحترام والأمان في المجتمع ستخاف وتهرب من أيّ محاولة حبٍّ تتعرّض لها، لذلك أغلب حالات الحب في مجتمعنا، وحتى في حياتنا الزوجية، مبنيّة على غباوة الجسدين). ثمّ يمتدح الكاتب عمله بالقول: (فالحكي فعل سحر، كما تقول حكايات ألف ليلة وليلة، فعل غواية، وهذا ما نجحت هذه الرواية في بنائه، بل في خلقه منذ أول سطر فيها، إذ لا تعقيد، ولا مماطلة، ولا مغامرة مجانية في السرد، بل حكي موصول بحكي حتى ليحسب القارئ نفسه في حضرة حكواتي دمشقي ولكنه مثقف يحسن إدارة مغامرة الحكي، وبناء الشخصيّات والأحداث بمهارة واضحة، ويكفي هذه الرواية أنها تفعل ذلك)، ولكن أليستْ هذه نرجسيّة تحاول أن تكون بديلة لسلطة النقد؟!
والآن، انظر معي أيّها القارئ العزيز وأنت تقرأ هذا المقطع الطويل، الناقد للمحسوبيّات والفساد والمافيات المهيمنة حتى على القرار الثقافي، يقول: (تلقّيت اتصالاً من شخص عرّف بنفسه.. ولم أكد أتمّ أهلاً وسهلاً حتى عاجلني بالقول: في مخطوط لكاتبة اسمها.. إيمتى بيطلع؟ فقلتُ: حتى ينتهي القراء من قراءته، فقال: ما في داعي للقرّاء، وقبل أن أقول: لا يجوز يا سيادة…، قال: هذه تعنيني شخصيّاً، ثمّ أقفل الخط في وجهي متذرّعاً بأنّ اتصالاً على الخطّ الآخر عليه أن يستجيب له. طلبت المخطوط فوراً، ولم أكد أمضي إلى سطره الثاني، حتى وجدتني في مواجهة غابة من الحرائق: في الأسلوب، واللغة، وعادي القول، وحتى رددت بيني وبين نفسي: حانت الساعة يا سهيل، وأعني ساعة مغادرتي المؤسسة لأنّني لن أستجيب لطلب السّيّد).
ثمّ يتابع الكاتب على لسان سارده الآخر، منضدّ المخطوطات، يوجه وخزاته النقديّة وهو محقّ نسبيّاً، نحو النّقاد الذين من المفترض بهم أن يضطلّعوا بدور ريادي في غربلة وتنقية الشوائب المبثوثة في ثنايا الكلمات والنصوص وتقويمها بموضوعيّة. يقول: (النّقاد في بلدنا، كما استنتجت مما نضّدت من كتب طوال السنوات العشر الأخيرة، أحد اثنين: إما مدّاح أو هجّاء، وندرة أولئك الذين تليق بهم هذه الصّفة، أعني ناقد، والذين يقدمون للقارئ معرفة أكبر بالرواية التي يتحدثون عنها).
وسؤالي الأخير الذي أسطّره هنا بودّ، هو لماذا نجد المعنيّين بالشأن التربوي أو الثقافي وكلاهما حاملا وعي الأجيال والمجتمع، يشكون وهم في موقع القرار المؤسّساتي، كشكوانا نحن المواطنين المساكين؟ يقول السّارد: (لماذا يصرّ هؤلاء الصّغار، رغم كونهم كباراً، على جعلنا نيأس من صلاح هذا العالم حولنا، لماذا؟). فإذا كان لا حول لهم ولا قوّة، لماذا إذن، لا يمتلكون جرأة مغادرة الموقع كما قيلَ في المقبوس السابق؟ أعتقد أنّها ستكون سابقة في هذا المجال لو حدثت. ولكن أللمنصب كلّ هذا السحر يا ترى!. ثمّ من الذي بيده قرار الفعل إذن؟!.
أوس أحمد أسعد