تراجع القراءة.. أحوال ووقائع
بالتأكيد لن تستطيع قراءة “الأخوة كارمازوف” أو “تحت أغصان الزيزفون”، وأخذ العبارة والمتعة منها، وأنت بمعدة فارغة، وأطفالك كذلك الأمر، هل وصل بنا الحال إلى هنا؟ نعم وصل، ولكن ثمة أسباب أيضا لا بد من ذكرها عن التدهور الكبير الحاصل بين الكتاب والقارئ المحلي والعربي عموما، خصوصا في الدول العربية ذات الثقل الثقافي التاريخي”سورية-مصر-العراق”.
اليوم أي كتاب بطبعة جيدة وترجمة محترمة في حال كان مكتوبا بلغة أخرى لا يقل ثمنه عن ال 3000 ليرة سورية، -عدا إصدارات الهيئة العامة للكتاب، التي تتكدس الكتب في أقبيتها وينالها من الرطوبة والعفونة ما يطالها-وهذا الرقم أي الـ 3000 ل.س، يحتاج المواطن السوري بعمومه، إلى كل قرش فيه، رغم أنه مبلغ زهيدٌ جدا، وما بين عدة أساسيات ولزوميات للبيت والتي صارت كالجبال على الأكتاف، وبين كتاب لأهم روائي أو شاعر أو فيلسوف أو قاص، سترجح كفة البيت الذي لا يكفيه ضعف الرقم المذكور بثلاث مرات، فتأمين لقمة العيش، أقوى تأثيرا من الآداب والفنون مجتمعة، ومن كان يقرأ كل شهر كتابا على سبيل المثال فإنه اليوم، لا يفعل هذا بالتأكيد!، خصوصا إذا أراد أن يشتري الكتاب، أي كتاب.
الدعوة للقراءة أمر جميل ورومانسي في بعض جوانبه، وهذا جميل، فكلنا يعلم أن القراءة هي بداية الدعوة للتمدن، والذي كما يبدو، أفقدتنا الحرب شيئا من المرونة في التعامل معه، وأرجعتنا معها للغرائز الأكثر إلحاحا منها، على بدائيتها، “دفء في البرد، طعام عند الجوع، أمان وقت الخوف”، وهذا ليس كلاما مفترضا بل هو واقع حال لقياس رأي الشارع المحلي بمختلف طبقاته، عدا “البرجوازية بأنواعها، لأسباب عدة- “عامر”-24 عاما- طالب جامعي، يرى أن ثمة أسبابا أخرى بالتأكيد ساهمت في هذا الفراق بين الكتاب والقارئ، منها ما هو مادي وواقعي، كالوضع الاقتصادي لأحدنا، والأولويات التي لا يمكن التضحية بها لأجل شراء كتاب مرة واحدة في كل 3 شهور، يقول عامر:” بالتأكيد لا استطيع أن أفكر أنا الشاب العازب ورغم أنني أحيا في المدينة الجامعية، أي على نفقة الدولة، أن أذهب لشراء كتاب وليس في جيبي نصف ثمنه، والمتوفر معي، هو ضروري للمواصلات ولزوميات الحياة اليومية، كالطعام مثلا، لذا لن تكون صادقا مع ذاتك أولا وأنت تطلب إلى الناس أن يقرؤوا ليرتقوا، في الوقت الذي لا يستطيعون فيه، تحقيق أبسط احتياجاهم اليومية.
كلام عامر جاء قاسيا خصوصا وأنه شاب، أي من الشريحة العمرية التي هي افتراضيا، الأكثر تعلقا بالقراءة، من بين بقية الشرائح العمرية الأخرى، سواء التي تكون عشوائية، أو تلك التي تصبح بمرور الوقت انتقائية.
إلا أن معارض عديدة تُجرى للكتاب وفي عدة أوقات وأماكن في البلاد أو في المدن الرئيسة فيه، خصوصا العاصمة، وهناك أسعار خاصة في تلك المعارض، عدا عن كونها دورية، ومترافقة بالعديد من الأمسيات الأدبية، وإن كنا أكثر تفاؤلا من “عامر” وقلنا أن القراءة عادة، تتطور حتى تصبح عادة ملحة وضرورة لا يُستغنى عنها، وهذا ما سعت تلك المعارض لتوفيره بأيسر السبل للقراء، فلماذا إذا هذا التراجع، خصوصا وأننا عند الحديث عن الجوع، سوف يصيبنا الذهول ونحن نرى لعائلة لا تملك قوت يومها، ومع كل فرد منها جهاز “موبايل” ثمنه يؤمن غذاء لأسرة مكونة من خمسة أشخاص لأسبوع في أفضل الأحوال، هذا ما أحالتنا إلى كونه من الأسباب الأهم لهذه الفجوة الكبيرة الحاصلة بين الناس والقراءة.
“سمر محمد” معلمة تقول: أنا من الجيل الذي نشأ وفي بيت أهله مكتبة فيها العديد من الكتب المهمة، سواء تلك التي كان يقرأها الوالد، أو التي يحضرها أخوتي الشباب، ومن ثم صرت أنا من يهتم بنوعية القراءة التي اقدرها أكثر من غيرها، خصوصا وأنني معلمة لغة عربية، وأعرف ماذا تعني القراءة بالنسبة للعقل، إنها ببساطة غذاء عقل الإنسان ودونها لا ينمو ولا يتطور، لكن الحال ليس كذلك في بقية البيوت عموما، عدا عن كوننا في زمن “الواي فاي”، تقولها المعلمة بسخرية وتتابع: “اليوم ما من مكان وإلا وأصابه هذا البلاء على بعض محاسنه، وصار من الطبيعي أن يكون حال الجيل، من حال الأداة التي بين يديه، إنه الآن على صفحات التواصل الاجتماعي ومن مختلف الشرائح العمرية، لديه عالمه الخاص هناك حيث يقرأ على حيطان الآخرين ما يكتفي به، ويحاول أن يشارك وأن يدلو بدلوه في بعض الأحيان، غير معني لا بعدد الايكات ولا بالمشاركات، وهناك شريحة موجودة هذا هدفها الوحيد، الشهرة، كل ربع ساعة صورة ب “لوك” مختلف، عدا عن الصفحات التي تحضر فيها أهم الجمل الأدبية والشعرية التي كُتبت أو قيلت في التاريخ، فيتم تداولها وبكثرة في الكثير من المشاركات، وهكذا يكتفي العديد من (القراءة) ولا أحد يستطيع اتهام أحد بأنه لم يفعل،لقد قرأ اليوم أكثر من عشر جمل لأهم شعراء العالم وأدبائه وكتابه وفلاسفته من المعلم الأول حتى نيتشه، حتى أنه متخم من القصيدة الحديثة”، وتنهي السيدة سمر حديثها بدرامية: “تخيل هناك من لا يقرأ إلا لنفسه، إنه كاتب نفسه المفضل، وقارئها كذلك، هذا وعي أجيال نشأت في أسوأ فترة بتاريخ الشعوب، الحرب”.
إذا بين أولويات الحياة وضرورة تأمين الحد الأدنى منها، ودخول العالم الافتراضي لعالمنا، واقتحامه حتى غرفنا التي نرتاح فيها، وبين عدة أسباب ليست محصورة أو محسومة من قبل: “ما بحبا بتملل وهي التلفزيون فيه كلشي” على رأي صاحب محل كبير من محال الخضار والفواكه المغلفة بإتقان مبالغ فيه جدا، تبقى قضية تراجع نسبة القراءة محليا وعربيا وبشكل انحداري مخيف، واحدة من أزمات اليوم، إننا لا نقرأ، ليس كتب الأدب والعلوم والفنون والفلسفة، إننا لا نقرأ التاريخ حتى!، وهذا ما تثبته الحياة كل يوم.
“اقْرَأْ” واحدة من الكلمات المحفورة في الوجدان العربي عموما، والقراءة بالنسبة إليه هي أمر مقدس وليس تحصيل حاصل، وحدث أن كنّا من أعلى أصحاب الزمان شأنا في التاريخ، وحين حدث هذا، ارتبط بأهم ازدهار ثقافي شهدته المنطقة العربية بعمومها، إلا أن تراجعا مخيفا تدل عليه مؤشرات دراسات فعلية، وقع في هذه الحالة، لتصبح القراءة والتي هي بداية الرحلة في فك قيود العقل، في حالة تراجع مستمر، ولا إشارات تدل على تعافٍ قريبٍ فيه.
تمّام علي بركات