الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نيافةُ الشهيد

د. نضال الصالح

بعدَ فراشاتٍ ستٍ شرّفَ غبطةُ المعلّم. تلكَ كانت لازمةَ ريمون عندما أهدته حنّة آخرَ العنقود في إمبراطوريّة حوّاء، لازمتُه أيضاً عن أسرته التي ظلّت لا تعرفُ آدمَ سواه لسنوات عشر. أمّا لازمةُ حنّة نفسِها، مذ بلغَ أذنيها صوتُ غبطته وهو يغادرُ جنّتها، فقد كانت نيافة القطا، لولعها بذلك الطائر الأوفى لأنثاه منَ الطيور كلّها، شأنَ أبيه الذي غالباً ما كانَ، بعدَ أن كانت تنهي صلاتها وضراعتها إلى السماء أنْ تكرمها بصبيّ، يأخذُ كفّيها بجنائن كفّيه، ثمّ يدنيهما من شفتيه، ثمّ يلثم رؤوسَ أصابعهما، وهو يرتّلُ ما كانَ آدمُ قالَ بعدَ أن أخذَ الربُّ الإله واحدةً من أضلاعه، وملأ مكانها لحماً، ثمّ، وهو يملأ رئتيه برائحة شعرها: “لذلكَ يتركُ الرجلُ أباه وأمّه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً”، ثمّ يفيئان معاً إلى شجرة الحياة.

بعدَ ستّ حوّاءات شرّفَ نيافة القطا. بعدَ فراشات ستَ سبقنه في رفرفات أجنحتهنّ بعيداً عن حنّة التي كانت تمضي الأشهر الأخيرة لحملها وهي تبحثُ عن اسم للفراشة الموعودة. وحده بطرس لم تختر اسماً له قبل أن يبلغَ أسبوعه الأوّل، كانت تكتفي، وهي تحتويه بين ذراعيها وتلقمه صدرها، بمناداته بالقطا، وحين سألها ريمون عن الاسم الذي سيحمله في شهادة الميلاد  قالت: “بطرس” من دون أن تمضي إلى سواه، وتابعتْ: “بطرس، سمعان، كيفا، الصخرة”، فرسمَ ريمون إشارة الصليب، ورتّلَ: “وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي”.

غبطةُ المهندس، بدلاً من أن يستكمل أوراق بعثته للحصول على الدكتوراه في الجامعة الغربية التي أوفدَ إليها، باغتَ حنّة، ونور العالم، كما كانَ يسمّي أباه، برغبته، بل قراره، في الالتحاق بالجيش لأداء خدمته العسكرية. تبادلتِ الأيّوبةُ مع نور العالَم النظرات. استغرقَ المكانُ في صمتٍ طويل، لم يبعثره سوى صوت بطرس وهو يتلو: “وَقُضِيَ الأمرُ واسْتوَتْ على الجُوديّ وقِيلَ بُعْدًا للقوْم الظّالمين”.

لنحو سنةٍ، لم تكن أيوّبةُ، ولم يكن نور العالم، ولم تكن الفراشات، ولم يكن ميخائيل، لم يكنْ أيٌّ منهم يعرفُ أيَّ معنى للحياة، وكانتِ الشاشة الصغيرة في البيت، وقد انقطعت أخبار بطرس، نافذتهم الوحيدة على أخبار الجبهات، وأرواحهم ضارعةٌ للناصريّ وأمّه أن يباركا “صائد الذئاب”، كما وصفَ بطرس نفسَه في آخر اتصال معهم، وكما قال لأيّوبة وهو يطلقُ ضحكةً وسْعَ هدير: “ألم يكن الرسول بطرس صائدَ أسماك؟ أنا الآن صائدُ ذئاب”.

بعدَ نحو سنةٍ، وحنّة وريمون يتسلّمان جثمانَ بطرس من المشفى العسكريّ في حلب، ومِن بين الرجال الذين كانوا يرفعون على أكتافهم جسدَ بطرس المسجّى في صندوق خشبيّ تضيء قماشه الملوّن نجمتان خضراوان، مضى أحدهم إليهما. رفع كفّه اليمين حتى حاذى صدغه، ثمّ بيسراه دفع إليهما بمغلّف كبير.

في المغلّف كانت ثمّة أوراق كثيرة بخطّ بطرس، مكتوبٌ في أوّلها: “يوميّات صائد الذئاب”، ثمّ: “بقلمِ نيافة الشهيد بطرس بن ريمون الحلبيّ”.