أزمتهم طويلة ومتمادية
سوف يتأكّد أن الخروج من المؤامرة على سورية أكثر تكلفة بكثير من الدخول فيها، وأن رحلة العودة ستكون باهظة الثمن، ولربما مدمّرة، وأن التعجّل الذي أظهره معسكر العدوان لجهة الانخراط في حرب – اتخذت عند الجميع صورة النزهة السريعة والاستثمار الذكي والرشيق بنتائج مضمونة- سوف ينقلب عليهم إلى أزمة طويلة ومتمادية، بل وإلى لعنة قد لا تبقي ولا تذر!.
هكذا تتخبّط واشنطن – مثلاً – لمجرد إعلان الرئيس ترامب عن سحب قرابة ألفي جندي أمريكي من شمال سورية، لتندرج مسألة وفاء الرئيس بوعوده الانتخابية في إطار نوع من أزمة مغلقة على صعيد آليات اتخاذ القرار داخل الإدارة الأمريكية، وتتحوّل إلى نوع من الصراع العلني والمفتوح على السلطة؛ وهكذا يتفنن، اليوم، دعاة “المقاطعة” العربية لسورية، وأبطال تجميد عضويتها في “الجامعة العتيدة”، وتحويل “ملفها”، قبل ثمانية أعوام، إلى مجلس الأمن الدولي، في وضع الشروط “التعجيزية!” المضحكة، ومن موقع الفاقد القدرة على إملاء الشروط أساساً، لعودة لم يطالب بها أصحاب العلاقة، ولا هم مستعجلون إليها البتة. هكذا، أيضاً، نتابع مهرجان الابتزازات الجماعية على خلفية الشعور العارم والجماعي بالفشل: يمنّي ترامب نفسه بجولة سطو جديدة على خزائن السعوديين والقطريين، ويكاد أردوغان ينفطر من الحقد والضغينة والرغبة بالانتقام وهو يرى بأم عينيه كيف يخلفه الأمريكان وحيداً، وكيف أن أوراقه “احترقت”، لا لشيء إلا لأن سيد البيت الأبيض قرّر، ببساطة، تغيير قواعد اللعبة، فيما قرّرت العصابات الإرهابية، من جانبها، أن “تفتح على حسابها”، هذه المرّة، مفضلة المبادرة إلى تصفية مرتزقته، في فصائل نورالدين زنكي، على انتظار نتائج تكتيكاته الانتهازية، التي أشبعت فشلاً.. حفلة الابتزازات لم توفّر حتى نتنياهو، الذي تفتّقت عبقريته عن مقايضة الأمريكيين، وعلى نحو هو غاية في السفور والحماقة، مخمّناً أن ترامب قادر فعلاً على السير بصفقة القرن الشهيرة إلى النهاية، أو أن الجولان يمكن أن ينتزع من سورية لمجرد أن الرئيس الجمهوري يفتّش عن مخرج لأزماته المتعدّدة.
ما نشهده فعلياً هو عملية تحللات وتفسّخات وذوبانات بطيئة في الصف المقابل.. إن المشكلات والتحديات الداخلية، هنا، تضاف إلى مأزق جماعي وشامل يتمثّل في محاولات عبثية لاحتواء التداعيات الجيوسياسية لانكسار مشروع الحرب على سورية؛ وإن أنباء وتسريبات ووقائع على شاكلة أن الرئيس التركي رفض لقاء بولتون – وبالطبع في إطار المشهدية المسرحية المعهودة والحافلة بلمسات وجماليات سينوغرافية أردوغانية- أو أن الجزائر رفضت استقبال “لاجئين” سوريين مفترضين قدموا من تركيا كونهم عناصر إرهابية سلفية امتهنت الإجرام، لسنوات طويلة، تحت يافطة ما يسمى بـ “الجيش السوري الحر”، أو أن صفقة القرن تتنحّى مؤقتاً أمام داهمية العمل على بناء “الناتو العربي” الذي ينبغي له أن يكون الوصفة السحرية التي ستتكفّل بالحيلولة دون تفجّر تناقضات حقبة كاملة من التمدّدات الوهابية، السياسية والثقافية، والتوسّعات الصهيونية التقليدية بتاريخها الاستيطاني والإبادي، وهيمنة الامبريالية الأمريكية في سورية الطبيعية، والشرق الأوسط القديم عامة.
صراع مختلف الجوانب، واتهامات متبادلة، ومسؤوليات متقاذفة، لا يكرّس إلا حقيقة مؤكّدة ومتنامية مؤداها أن مشروع الحرب على سورية كان أفظع وأدهى وأشد إجراماً من مجرد تواطؤ عابر الغرض منه تقويض نظام سياسي عرف بثباته السياسي والعسكري في مواجهة مشاريع السيطرة الغربية والإسرائيلية على المنطقة. لقد كان الرهان قائماً على زج الشرق العربي نهائياً في الحظيرة الامبريالية، وإلحاق سورية ولبنان بالمظلة الأطلسية جنباً إلى جنب مع تركيا الإخوانية العثمانية الجديدة.
ولكن أحداً لم يكن ليضع في حسبانه، ولم يكن لينتظر، انتصاراً سورياً يعيد صهر الشرق الأوسط في بوتقة المقاومة، ويقوّض المنظومة الإقليمية التي تأسست على صعود الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويدشّن الخطوات الأولى لبناء نظام جديد سوف يكنس في طريقه بقايا التبعية والرجعية والعمالة.
بسام هاشم