“لأقمار الوقت”.. الشاعر القصيدة
“لأقمار الوقت”، المجموعة الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، للشاعر السوري العتيق “عبد الكريم الناعم”، حاملة عنوان ثقيل الوجد، إن كان في إيحائه الخاص والذي يذهب نحو تسميته فئة من الناس الذين يجلهم ويصفهم بكونهم “أقمار الوقت” نظرا لذاك الضياء الذي نشروه في مرورهم النيزك بسماء بال “الناعم” وفي الحياة عموما، أو في وقعه المباشر لا كعنوان، بل كإهداء روحي، بوحي، عاطفي، إنساني، لحالات خاصة تنسحب على الكثير من الحالات العامة، تلك التي عايشها الشاعر منذ عام 2011، أي منذ بدء الحرب على البلاد، حيث اختار الشاعر بطبيعته الرهيفة، ورقيه الشعري،أن يكون قلمه ومداد حبره، لشخوص كانوا العنوان البين والجلي، للحالات التي عايشها الشاعر في مدينته حمص، وهو يرى إلى الخراب يجيء بوجه أسود كالقطران، ومخالب من حديد صدئ، يقطر منها من الظلم والقسوة، خراب يصده ويوقف مدارات انفجاره، شباب بعمر الرياحين، نذروا أرواحهم لهذا، وها هو الشاعر يرى لذلك الكرم الذي لا يدانيه ولا يضاهيه أي كرم آخر، وهو يدرك تماما قيمة ما فعلوه، فالجود بالنفس من أسمى أنواع الجود، وهذا ما فعله “حسن” والذي هو رمز للكثير من الشباب الذين اختلقت أسماءهم، لكن أرواحهم، لونّها قدر واحد، قدر لا يُكتب إلا لأصحاب الضمير الصافي والقلب النقي كصبح يطلع على الكروم؛ يقول في قصيدته “اسمه حسن”: (كان واحدا من الذين يزرعون الورد وابتسامة الشفاء حيث حل/ يا لو رأيت كيف تهرع الطيور حين ينشر الأُوار نحو الظل/كان اسمه حسن/ وفعله كاسمه/ أدخلوه غرفة الطوارئ/ السماعة الملقاة قرب جرحه تدق خلسة، وثم مبضع داهمه البكاء)، القصيدة تبدو وكأنها حكاية إنما يرويها الشعر، يتخفف فيها الشاعر من كثافة اللفظ وثقل المعنى الزائد عن الحاجة، ليذهب نحو ما هو شعري في تلك الحالة، ولتأتي الصورة الشعرية (وثم مبضع داهمه البكاء)، كرثاء لذاك الطبيب “حسن”، الذي تبكيه أدواته، وفي (لحظة تُنكس الرؤوس عنوة، فتطرق الخيول في مراحها/ ويُطرق الزمن/ كان اسمه حسن)، مجاورة أو مواءمة ذكية، بين النثر والتفعيلة، التي تجيء كما لو أنها ضربة ريشة قوية في سماء القصيدة، وفي خواتمها عموما لدى الشاعر في المجموعة الآنفة الذكر.
ليست المفردات والصور الشعرية أو العلائق اللغوية التي تقف عليها القصيدة، تلك التي يبتكر لها الشاعر إيحاءات حادة في رقتها، وحانية في قسوتها، هي من سيغري القارئ ببدء تقليب أوراق ديوان “لأقمار الوقت”، ولا اللغة النثرية-السردية- عالية المزاج، وهي تعلن بصوت عال عن حضورها الواثق والأكيد في نصه، بعيداً عن البوحية الخافتة، والترميز المشفر للمعاني، بل هي الرائحة التي ستنفذ من الرؤى والخيالات المنفلتة من خاطر الحبر، لتتسلل علانية من قضبان القصيد، مخترقة عوالم قصية في خاطره، حيث ستدفعه رائحة قصيدة “الناعم” لارتيادها مرة أخرى، واكتشاف مفازات فريدة كان يجهلها، في الوقت الذي يعتقد فيه أنه قابض بإحكام على حبل نسيانها.
الرائحة المأهولة بالكرى التي تذكّر بأعطيات خالدة، مفرحة حيناً، ومحزنة حيناً آخر، أعطيات للقلب، وأخرى للقلق، نسيس اشتعال الحرف، وهو يحترق ليضيء الحرف المتعرش عليه وهكذا، عطر غائبين، وتبغ وحدة، فوح الرغبة، ورعونة ال”خشية”، “مواقيت” ترسم شفقاً قديماً، وأخرى تحترق على فحم الأسى الموشى بالأنين الخافت هنا، “مهجر”يتمشى في خاطر مشط، و”مرار” كعاصفة مؤجلة؛يقول الشاعر في قصيدته “خرج ولم يعد”: (للخريف نكهة الدروس وابتداء رحلة الغيوم/ للخريف وردة الخطى/ الثمار في أوانها،للخريف نكهة الدروس والبذار والجنى/ لصاحبي نشوته في الدرس/ ألقى إلى صغاره ابتسامة/ وغاب في مدى أشواقه لرحلة مع الشباب واستدارة القناطر/ مثقلة عيناه بالنعاس والصقيع/ ليس هذا الصف/ مُقيد الرجلين والقدمين/ريح جثة وراءه/ أمامه الساطور والكابلات/ فوقه أنشوطة مربوطة في السقف/ ليس هذا الصف”.
اللغة التي يشتغل على ملامحها الشاعر، بسيطة، واضحة، لا دهاليز فيها، لكنه قادر تماما على توظيف لحظة شعرية واحدة في القصيدة، محيلا إياها إلى حكاية شعرية كما ذكرنا سابقا، حكاية أولئك الطيبين الذين خطف موت الغرباء حيواتهم، عنهم وعن أمثالهم، ليأتي “لأقمار الوقت” كشاهد إثبات شعري، على ما جرى، عندما مالت كفة الدم، وصارت الحياة شبهة ومقدمة لقصة موت معلن، حصدت بمنجل القسوة أرواحا، أفقدت في غيابها العالم اتزانه في قرارة الشاعر.
يعلي عبد الكريم الناعم من رشاقة لغته في تعبيرها عن جوانياته المعروفة إليه تماماً، ولربما هذا أكثر ما يميز قصيدته، صدقها، الذي يشتغل على ضبط موازين أخرى لا تحتفي فيها قصيدة النثر عادة، كالإيقاع، إلا أن قصائد “لأقمار الوقت” تخترع لثيمتها إيقاعها الخاص بها، تبديه المفردات تارة وتخفيه برشاقة ودلال تارات أخرى، وهذا عائد لنمط الوعي الفكري الناضج الذي يظهر جلياً في الموازنة ببراعة لاعب خفة، بين السبك اللغوي المحكم للنص، وبين التفلت المقصود من قواعد اللعبة السردية، في الإيهام والإشراق والإيجاز والتوهج، الشيء الذي يظهر بوضوح في قصيدته “إجهاش”التي يقول فيها: (تقول لي: إياك أن تقول أن الشعر ما يزال غائبا/أمطار تشرين استوت/ وكنتُ منذ تلبدت هيأت فنجانين/ فاستفاقت الأقمار في دلائها/ سيدتي حين يكون الطير مطرقا/ينود في شجونه/ والشهداء يقطفون وردة الحتوف/ تكتظ في أشعارنا أعمارنا، وتجهش السقوف).
147 حكاية، قصيدة، فكرة، لوحة، ثيمة، يضمها “لأقمار الوقت” وهي في اختلاف مواضيعها وتنوع أساليب اللعب الشعري لإخراج جواهرها، تسرد الوقت، لا كساعة تدق بعقارب من عدم، بل من خلال حيوات وحالات، هزت في وجدان صاحب “من مقام النوى”، أجراس الكينا، لينداح الكلام وكأنه غيوم تجمعت في سماء واحدة، كل غيمة تحمل شكلا يدل على رمز، وكل رمز يحمل جملة من القسوة التي عمل الشاعر على تقديمها للتاريخ، والذي يعرف بقرارة نفسه، أن ثمة من سيكتبه حسب مزاجه، متجاهلا حكايا تلك الشخصيات التي خلدها صاحب “عينا حبيبتي والاغتراب”، بين أوراق مجموعته التي بين يدينا، وكأنها تشظيات لا تحصى، لقلب رهيف تدميه القسوة، ويلوعه الفقد.
تمام علي بركات