فلسطينيّو الداخل المحتل: نهاية زمن الغموض
نافذ أبو حسنة
كاتب وصحفي من فلسطين
في تمّوز الماضي صادق كنيست دولة الاحتلال على (قانون القوميّة) الذي يعرِّف دولة “إسرائيل” بأنّها (الدولة القوميّة للشعب اليهوديّ)، وينصّ على أنّ (حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل) يقتصر على اليهود، وأنّ الهجرةَ التي تؤدّي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط.
سابقاً، كانت دولةُ الاحتلال تعرِّف نفسَها بأنّها “دولة يهوديّة وديمقراطيّة” في آنٍ معاً. وكان على مَن يجد تناقضاً في هذا التعريف أن يسير مسافةً طويلةً مع تناقضات الصهيونيّة وتلفيقاتِها، ذلك أنّ مِن بين الصفات التي تحملها الصهيونيّةُ على نحوٍ أصيل: التلفيقيّة.
المهمّ في الممارسة العمليّة أنّ دولة الاحتلال كانت تطبِّق “قانونَ القوميّة” الجديد بحذافيره. فهي الدولة التي قامت على حساب اقتلاع العرب الفلسطينيين وتهجيرِهم من أرضهم. وهي الدولة التي تستقبل (تستجلب) اليهودَ من كلّ أنحاء العالم ليصبحوا “مواطنين فيها.” وهي الدولة التي تمارس القهرَ والتمييز. ومن بين أحزابها مَن لا يزال يقيم برنامجَه على فكرة الترانسفير، أي اقتلاعِ مَن بقي من الفلسطينيين على أرضه وتهجيرِه. الجديد الوحيد في الأمر اليوم: أنّها تقوم بترسيم الممارسة الفعليّة في نصٍّ مكتوبٍ ومعتمد باسم “قانون”. ولذلك يبدو مفهوماً أن يتهكّم البعضُ على مشاركة فلسطينيين في التظاهرات التي طالبتْ بإلغاء “قانون القوميّة” الجديد، وكأنّ العودة إلى الوضع السابق ستجعل الأوضاعَ أفضلَ ممّا هي عليه!
على أنّ إصدار هذا “القانون” أعاد طرحَ أسئلةٍ قديمةٍ عن مشاركة فلسطينيي 1948 في مؤسّسات الدولة الصهيونيّة، وتحديداً الترشّح إلى عضويّة الكنيست وجداوه، بعد أن أعادت دولةُ الاحتلال تعريفَ نفسها بوضوحٍ لا يدع مجالًا لتفسيراتٍ تسوِّغ الانخراطَ في نشاط “برلمانيّ” بهدف التغيير أو تحسين شروط العيش أو “تحقيق المساواة”.
هنا نلاحظ أنّ جانباً كبيراً من النقاش الذي دار حول هذه التساؤلات عاد ليتعامل مع فلسطينيي 1948، بعد سبعين عاماً من النكبة، على نحوِ ما كان عليه الأمرُ بعد سنوات قليلة من وقوعها، وذلك بوصفهم حالةً مسربلةً بالغموض: فالبعض يتّهمهم بالخيانة و”التأسرل”، والبعض يحيطهم بهالةٍ من القداسة والتبجيل. وبين أولئك وهؤلاء مَن يدعو إلى “تفهّمِ واقعهم،” وتقديرِ كفاحهم ضدّ مغتصبي أرضهم، وناهبي حقوقهم، بحدودِ ما هو “متاحٌ” من أدواتٍ لا تستفزّ العدوَّ القوميَّ إلى حدود فتح النار الفعليّة تجاههم.
ليس أسهلَ من القطْع بتوصيفاتٍ حدّيّةٍ جاهزة. ولكنّ المنطق يقتضي مقاربةَ الواقع بكثير من الدقّة، وتتبّعَ التطوّرات التي مرّ فيها العربُ الفلسطينيون الذين بقوا على أرضهم، من أجل الإجابة عن جدوى المشاركة السياسيّة… ليس بعد إقرار “قانون القوميّة” الجديد، بل قبل ذلك بكثير، لكون كلِّ ما فعله هذا القانونُ إنّما هو تكريسُ واقعٍ قائمٍ بنصّ “قانونيّ” (إنْ جاز وصفُ شيء في دولة احتلال بأنّه قانونيّ).
باختصار:
لو كان الأمرُ في يد الغزاة الصهاينة لَمَا أبقوْا على فلسطينيّ واحد في الأرض التي استولوْا عليها واقتلعوا أهلَها منها. لكنّ ما حدث أنّه على الرغم من المجازر والاقتلاع بقي على الأرض الفلسطينيّة، وعاد إليها “متسلّلاً،” نحو مئةٍ وخمسين ألف فلسطينيّ، تعاملتْ دولةُ الاحتلال معهم وفق آليّات التفتيت والتهميش والإخضاع والدمج، كطوائف وأقلّيّات مستحدثة: مسلمون، مسيحيون، دروز، بدو، شركس… وقد حُدّد مفهومُ “الدمج” بأنّه “تحويلُ العرب إلى مواطنين بالحدّ الأدنى الضروريّ من الولاء لـ “إسرائيل”.
تجسّدتْ عبارةُ ميخائيل آساف السابقة في الممارسة المعتمدة لتطبيق تلفيقة “دولة يهوديّة وديمقراطيّة” (الواردة في”إعلان الاستقلال”). ولذلك عمد الصهاينة إلى إشراك الوجهاء، وشيوخِ العشائر، ورجالاتِ الطوائف المستحدثة، في الكنيست ابتداءً من دورته الأولى. كان إشراكُ هؤلاء يؤدّي إلى استمالتهم، ويَخدم الزعمَ بديمقراطيّة الدولة، ويعزِّز وسمَ أيّ تحرّكٍ لفلسطينيٍّ مناهضٍ بـ”معاداة الدولة” وتبرير ضربه بقسوة.
شكّلتْ أحزابُ “اليسار الصهيونيّ”، ثمّ أحزابُ اليمين، “قوائمَ عربيّة”، على غرارِ ما قامت به بريطانيا بعد احتلال فلسطين من تشكيل أحزابٍ عربيّةٍ تعمل في خدمة السياسة الاستعماريّة. ولاحقاً، عمدتْ بعضُ أحزاب ذلك “اليسار” إلى ضمّ عربٍ إلى صفوفها. كما نشط بعضُ العرب الفلسطينيين في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ (ماكي) وترشّحوا على لوائحه إلى الكنيست.
انعكس صعودُ المدّ القوميّ العربيّ -في أواسط خمسينيّات القرن الماضي- إيجاباً على فلسطينيي 48. وقد انسحب فلسطينيون من حزب “ماكي” المؤيِّد للصهيونيّة، وساهموا في تشكيل حزب شيوعيّ معادٍ للصهيونيّة، عُرف باسم “راكاح” (1965). أهمّ من ذلك بكثير كان تشكيل “الجبهة العربيّة،” التي طالبتْ بإعادة اللاجئين الفلسطينيين وإلغاءِ الحكم العسكريّ، وحوّلت اسمَها إلى “الجبهة الشعبيّة،” من دون أن تنجح في الحصول على ترخيصٍ بالعمل العلنيّ. ثم انفصل التيّارُ القوميّ العربيّ في هذه الجبهة عن الشيوعيين، وشكّل “حركة الأرض” التي ناهضها الصهاينةُ بشدّة، وأصدروا قراراً بحلّها سنة 1964.
حدثتْ كلُّ هذه التطوّرات في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون تحت الحُكم العسكريّ، مع ما يرافقه من ملاحقة وقهرٍ وتضييقٍ وحصار. في العام 1966 رُفع الحكمُ العسكريّ، لكنّ التحوّل الكبير انتظر حتى ما بعد حرب حزيران 1967، إذ بقيت اتجاهاتُ العمل السياسيّ موزّعةً: ما بين اتجاه قوميّ عربيّ محاصَر وملاحَق، وبين عاملين مع الأحزاب الصهيونيّة، وناشطين في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ.
مغادرة الخوف… عودة الهويّة
بعد حرب حزيران، التقى الفلسطينيون في بلادهم، واكتشفوا المشترك، ولكن المتمايزَ أيضًا، فيما بينهم. ولم يكن هناك بدٌّ من تبادل التأثير، الذي قاد إلى نشوء الحركة الوطنيّة في الداخل لاحقًا، متأثّرةً بالحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في الضفّة والقطاع والشتات. وكانت منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة قد تشكّلتْ أواخر العام 1964، وأطلقتْ حركةُ “فتح” الكفاحَ المسلّح مطلعَ العام التالي، وكانت انطلاقتها الثانية بعد أشهر قليلة من حرب حزيران. وتلا ذلك انطلاقُ الجبهة الشعبيّة وفصائل أخرى.
رأى الفلسطينيون عامّةً في منظّمة التحرير حركةَ تحرّر وطنيّ تضمّ ائتلافًا من الفصائل المسلّحة التي ترفع شعارَ “تحرير فلسطين،” وتستهوي بأعمالها الفدائيّة الجريئة الشبابَ العربيّ المتطلّع إلى تجاوز الهزيمة. ولم يكن فلسطينيو 1948 بمنأًى عن تأثيرات المقاومة الفلسطينيّة، ولا كان ممكناً أن يقاوموا إحساسَهم بأنّهم جزءٌ من هذا الشعب المقاوم، الذي لم يعد حالةً مجهولةً بالنسبة إليهم، بل يستطيعون تلمّسَها على مقربةٍ منهم، وتقوّي من رغبتهم في كسر حاجز الخوف؛ كما تُحْيي الرابطَ الوطنيَّ بينهم، بعد سنواتٍ طويلةٍ من العمل الصهيونيّ على إحلال الروابط العشائريّة والطائفيّة.
بموازة ذلك، ارتفع عددُ العرب الفلسطينيين في الداخل إلى أربعمئة ألف مطلعَ السبعينيّات. وهذه الزيادة العدديّة أوجدتْ نوعاً من الثقة بالنفس، وحقّق الفلسطينيون نسبةَ تعليمٍ عاليةً رغماً عن أنف الاحتلال الذي أرادهم “حطّابين وسقّائي ماء”. ووفقاً لملاحظة حبيب قهوجي، فقد نشأ “نضالٌ شرسٌ يغذّيه حافزان: تحقيقُ الحقوق اليوميّة، وتحقيقُ الحقوق القوميّة”. وقد وصف شمعون شامير المشهدَ الجديدَ بالقول: “إنّ الجيل الناشئ له طبائعُ سياسيّة مختلفة عمّا لدى جيل الوجهاء والمخاتير. إنّه غير الذين ورثناهم عام 1948”.
في العام 1972 ظهرتْ “حركةُ أبناء البلد” على أيدي عدد من الناشطين سابقاً في “حركة الأرض”. وقد ساعد تستّرُ الحركة وراء أهدافٍ اجتماعيّة في ضمان امتدادها بعيداً عن القبضة الأمنيّة الصهيونيّة. ولن تفصح الحركةُ عن توجّهها السياسيّ، القريبِ من مطالب “حركة الأرض” وأهدافها، إلّا في وقت لاحق، عندما سيطرتْ على بعض المجالس المحليّة، ونالت أحدَ عشر مقعداً في انتخابات لجنة الطلبة العرب في القدس سنة 1980.
سنة 1973 وقعتْ حربُ تشرين، لتتركَ مظاهرَ اعتزازٍ متزايدٍ بالهويّة القوميّة، حينها أشار باحثون صهاينة إلى أنّ “ضعفَ هيبة إسرائيل” سوف يؤجِّج مشاعرَ العرب القوميّة، ولاسيّما مع تعزّز مكانة منظّمة التحرير وامتلاكِها تأثيراً ملموساً في فلسطينيي 48. في هذه الأجواء سيطر “راكاح” على مجلس بلديّة الناصرة سنة 1975، وانطلقتْ أنشطةُ الطلبة العرب بتعبيراتٍ صريحةٍ عن الانتماء الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ العربيّ.
“لم يكن التصويتُ لـ “راكاح” بسبب شيوعيّة الفلسطينيين بل بسبب وطنيّتهم”، بتعبيرات داني روبنشتاين. فهذا الحزب كان الإطارَ الوحيدَ المرخَّصَ له، الذي يعلن معاداتَه للصهيونيّة، ولذلك التفّ الفلسطينيون حوله. وهذا ما أقلق الشيوعيين القدامى، الذين طالما تحدّثوا عن “الأخوّة العربيّة ــــ اليهوديّة” منتقدين المشاعرَ “القوميّة المتطرّفة” لدى أيٍّ من الجانبيْن.
تصاعد مسارُ التعبير عن الهويّة بسرعة، وكان الردّ على مصادرة الأرض بانتفاضة يوم الأرض في آذار1976. لكنْ، حتى قبل ذلك، كان صهاينةٌ قد استنتجوا أنّ التعايش صعب “مع أقليّةٍ ليس لرغباتها القوميّة حلٌّ في إسرائيل” (وفق ما كتب شموئيل طوليدانو في معاريف عام 1974). وبعد انتفاضة يوم الأرض، التي صرخ فيها الفلسطينيون “نحن عرب فلسطينيون”، عادت الأحاديثُ بقوة عن الترحيل والطرد.
تسمح التعبيرات التي أطلقها الفلسطينيون في انتفاضة يوم الأرض، وكذلك ما كتبه الصهاينة، بالوصول إلى استنتاج يتعلّق بانعطاف حاسم كلّيّ وجذريّ في مسار التطوّر السياسيّ لفلسطينيي 48. لكنّ مثل هذا الاستنتاج لن يصمد بالكامل في مواجهة الوقائع. وإذا كان بالإمكان الحديثُ عن روحٍ جديدة، وعن تحوّلٍ وتطوّرٍ في الصدام بين “قوة قوميّة” تتعزّز ذاتيّاً وتدرك عمقَ ارتباطها بمحيطٍ واسعٍ من حولها، وبين عدوّها القومي، فقد بقي كثيرٌ من الصيغ السابقة حاضراً في تفكير قطاع ليس صغيراً من الفلسطينيين في الداخل. ولعلّ هذا ما يفسّر التذبذبات الحادّة التي تبدو عصيّةً على الفهم في كثير من الأحيان.
في انتفاضة يوم الأرض، سقط شهداءُ وجرحى، وظهرت الأعلامُ الفلسطينيّة، وصرخ شابٌّ في وجه جنديّ صهيونيّ: “اخرجْ من هنا. هنا فلسطين!” وعلى مدى أشهر بعد ذلك، انصبّت التحليلاتُ على سقوط قرار التقسيم، وعلى توحّد الفلسطينيين في المواجهة، وعلى المسلك الكفاحيّ الجديد لفلسطينيي 48. ثم بدا أنّ الأمور تتّجه في مسارٍ آخر: فالاحتجاجات التالية كانت هادئة؛ وظهر “مخاتير” و”وجهاء” جدد، وبالبذلات الرسميّة أيضاً، ليتحدّثوا عن “الولاء للدولة” وعن “طيش الشبّان الفلسطينيين بتحريض عناصر متطرّفة!”
لم تكن الإجابة عن أسباب ذلك سهلة. ثمّة نمطٌ يميِّز سلوكَ فلسطينيي الداخل، من “السير على حبلٍ دقيقٍ بين الانتماء إلى الأمّة العربيّة، وبين الشعور بالضعف المقترن بمطمح تحقيق الأمن في دولة إسرائيل”. ومع أنّ انتفاضة يوم الأرض أنهت قانونَ الخوف من سلطة الاحتلال.
هنا، ينبغي ألّا يُهمِل التتبّعُ ما قامت به منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة باعتماد البرنامج المرحليّ (1974) وما تلاه من برامجَ قيل إنّها أُسّستْ عليه. ومن دون نقاش تفاصيل هذا البرنامج والموقف منه، فقد كانت محصّلتُه الفعليّة اعتمادَ ما يُسقِط فلسطينَ المحتلّة عام 1948 من الحساب، ويتحدّث عن دولة فلسطينيّة في فلسطين المحتلّة عام 1967، وهو ما ترك آثارَه السلبيّة في فلسطينيي 1948.
ما بين “المساواة” والحقوق القوميّة
كانت المطالبة بـ “المساواة” قد شكّلتْ محوراً أساساً للمشاركة السياسيّة الفلسطينية في الداخل المحتلّ عام 1948، وظهرتْ بشكلٍ مقزِّزٍ في أحيانٍ كثيرة، من قبيل مطالبة أحد أعضاء “ماكي” العرب بفرض التجنيد الإجباريّ على الفلسطينيين في الجيش الصهيونيّ لـ”تحقيق المساواة”. ثمّ تطوّر الخطابُ المساواتيّ ليمزجَ بين المطالبة بالحقوق اليوميّة والمطالبة بالحقوق القوميّة (وإنْ كانت المطالبة بالأخيرة أقلَّ بكثير، وإلى حين). ذلك أنّ التطوّرات (التي جرت الإشارةُ إليها) أوجدتْ نسقاً جديداً يركّز على الحقوق القوميّة. ففي إطار تفاعلات يوم الأرض، برزتْ إلى الوجود سنة 1979 “الحركةُ الوطنيّةُ التقدميّة” التي أعلنتْ عدمَ اعترافها بالكيان الصهيونيّ، وتحالفتْ مع محمد ميعاري (انشقاق قوميّ عن الشيوعيين)، فظهرت “القائمةُ التقدّميّة للسلام”.
جوبهت “القائمة” بالقمع الصهيونيّ، ومُنعتْ من المشاركة في انتخابات الكنيست عام 1984 بحجّة أنها تؤْمن بمبادئ تشكّل خطراً على “دولة إسرائيل وعلى ميزتها كدولة يهوديّة”. وكان السبب وراء ذلك اعتمادَها برنامجاً يشدّد على الهويّة العربيّة لفلسطينيي 48.
بالتزامن مع ذلك، برزتْ حركتان أخريان مثّلتا امتداداً لـ”حركة الأرض”: “حركة النهضة/الطيبة” بقيادة صالح برانسي، و”حركة تنظيم الصوت/الناصرة” بقيادة منصور كردوش، وهما من مؤسِّسي حركة الأرض. كما قوي حضورُ “الحركة الإسلاميّة” التي مَنعتْ أنصارَها من التصويت لانتخابات الكنيست، قبل أن تنشقَّ لاحقاً، فتشكّلت الحركةُ الإسلاميّة الجنوبيّة بقيادة عبد الله نمر درويش، وقد شاركتْ في الانتخابات؛ في حين بقيت الحركة الإسلاميّة الشماليّة -بقيادة رائد صلاح- ترفض المشاركة.
في الوقت نفسه ظهرتْ منظّماتٌ ذاتُ صبغة طائفيّة أو محليّة أو مطلبيّة. وفي العام 1988، وفي أجواء الانتفاضة الأولى، نجح عبد الوهّاب دراوشة في تشكيل “الحزب الديمقراطيّ العربيّ”،من دون أن يُحْدث تغييراً كبيراً في المشهد، على الرغم من المشاركة المتقطّعة لفلسطينيي 1948 في فعّاليّات تلك الانتفاضة (1987)؛ فقد اندرج دراوشة (كان يصل إلى الكنيست على قوائم حزب العمل) في الخطاب المساواتيّ التقليديّ نفسه.
في ضوء كلّ هذه التطورات، يمكن تلخيصُ المشهد بالآتي: بقاءُ البعض مرشَّحاً على قوائم أحزاب صهيونيّة، والبعض في قوائم مشتركة (الحزب الشيوعيّ)، وبروزُ قائمة عربيّة، وكذلك بقاءُ البعض رافضاً المشاركةَ في الترشّح أو الانتخابات (أبناء البلد، الحركة الإسلاميّة الشماليّة، قطاع واسع من غير الحزبيين). ولم ينقطع النقاشُ حول الجدوى من المشاركة، سواء المقاطعة الناجمة عن سبب مبدئيّ برفض الاعتراف بدولة الاحتلال، أو عن أسباب تتعلّق بالانعكاسات على الحقوق اليوميّة.
عشيّةَ توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، كان الخطاب السياسيّ لقطاعات من فلسطينيي 1948 يتحدّث عن دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع، عاصمتُها القدس، وعن حكم ذاتيّ لفلسطينيي الداخل. ولكنّ الاتفاق المشؤوم والبائس نصّ على حكمٍ ذاتيٍّ في الضفّة والقطاع، وأفرز سلطةَ حكم ذاتيّ مطوَّقةً ومعدومةَ الصلاحيّات؛ ما أنعش من جديدٍ خطابَ “المساواة”.
المشاركة السياسيّة: الجدوى والتجاوز
في الذكرى الخمسين للنكبة، انتهت ظاهرةُ “الراقصين الفلسطينيين” في “عيد استقلال
إسرائيل” مع أعلامٍ بالنجمة السداسيّة، ورفع الفلسطينيون شعارَ “خمسون نكبة وصمود”. وفي العام 2000 سارت التظاهراتُ باتجاه القرى المدمَّرة، وهي ترفع الأعلامَ الفلسطينيّة، وراياتِ حزب الله؛ فذلك العام شهد اندحارَ الاحتلال من معظم مناطق لبنان تحت ضربات المقاومة، وتفجُّرَ الانتفاضةِ الفلسطينيّة الثانية.
قدّم فلسطينيّو 48 ثلاثة عشر شهيداً ومئاتِ الجرحى في ما عُرف لديهم بـ”هبّة أوكتوبر.” وقد علّق رئيسُ الشاباك، آفي ديختر، على تلك الوقائع، مشدِّداً على أنّ فلسطينيي الداخل هم مَن فجّروا الانتفاضة، وأنّ “لديهم ميلاً مقلقاً للانفصال على أرضيّة دينيّة قوميّة”. هذا القول يمكن احتسابُه في خانة التحريض ضدّ فلسطينيّي 48، ولكنّه يُبرز أيضاً زمنَ امتلاكهم القدرةَ على التعبير بصراحةٍ وقوّةٍ عن هويّتهم القوميّة والوطنيّة. نحن عربٌ فلسطينيون، قالوا. لم يعد هذا استثناءً يتطلّب التفتيشَ عمّن يطلقه، بل أصبح التعبيرَ السائد، ويمكن اعتبارُه محصّلةً للصمود الطويل في مواجهة التهميش والتفتيت والدمج.
طوال هذا الوقت ظلّ السؤالُ عن جدوى المشاركة العربيّة في الكنيست حاضراً. أنصارُها يقولون إنّهم يستطيعون التأثيرَ من خلالها، ويضربون أمثلةً على ذلك بقدرة الصوت العربيّ على معاقبة شمعون بيريز على مجزرة قانا، ومعاقبةِ إيهود باراك على قمع الانتفاضة (حيث قاطع العربُ الفلسطينيون التصويتَ)، وقدرةِ أعضاء الكنيست على نصبِ “فخّ برلمانيّ” لإحباط قرار مصادرة أراضٍ. ورافضوها يقولون إنّ مَن أسقطوا بيريز وباراك هم أنفسُهم مَن يعانون احتلالَ أرضهم، ويعانون القهرَ والتمييزَ والتهميش، من دون أن تفلح المشاركةُ المذكورةُ في تحصيل حقوقهم اليوميّة، ناهيك بحقوقهم القوميّة؛ كما أنّ المشاركة تعني الموافقةَ على أداء مؤسّسات الكيان الصهيونيّ، وتصويرَه وكأنّه “دولة ديمقراطيّة”.
بموازاةِ ما حقّقه الفلسطينيون من التعبير الواضح عن هويّتهم الوطنيّة والقوميّة، لم يتوقّف الصهاينةُ عن محاولات التهميش والتفتيت والدمج. فهناك مساعٍ من قِبل “مخاتير جدد” لتوسيع نطاق المشاركة الفلسطينيّة في الخدمة العسكريّة في جيش العدوّ، بعد أن كانت قاصرةً على فئتين من العرب الفلسطينيين. وهناك مَن يريد الدفعَ نحو “التأسرل.” وبذا يتبدّى أنّ الصراع ما زال محتدماً، وإن اختلفت الموازين، خصوصاً في كون فلسطينيّي الداخل (48) لم يعودوا هامشيين، بل باتوا أكثرَ إقداماً.
بالعودة مجدّداً إلى السؤال عن “المشاركة السياسيّة الفلسطينيّة،” وبعد هذا العرض الذي قد يبدو مسهباً ولكنّه ضروريّ من أجل تفهّم شكل الإجابة بعيداً عن سوْق الاتهامات أو المزايدة، فإنّ كلّ المعماريّة التي جرى بناؤها من أجل تسويغ المشاركة قد سقطتْ. وعلاوةً على طرحها إشكاليّةً من نقطة البدء، فإنّ الجدوى المتحصّلة عنها لم تحقِّق أيّاً من الأهداف التي أريدت منها. واليوم يعلن الصهاينةُ، صراحةً، يهوديّةَ دولة احتلالهم، متخلّين عن جزءٍ من تلفيقتهم التاريخيّة عن دولة “يهوديّة وديمقراطيّة.”
لقد قادت العمليّةُ الصراعيّة، الطويلةُ والمعقّدة، إلى نجاح فلسطينيّي 48 في إفشال سياسات الدمج والتذويب، وإلى النجاح في إثباتِ أنّهم جزءٌ لا يستهان به من معادلةٍ صراعيّةٍ أشمل لطالما اعتبرهم البعضُ خارجها. وسوف تكون لتطوّرات الصراع ضدّ العدو انعكاساتٌ كبيرةٌ على أوضاعهم، متأثِّرين فيها ومؤثّرين أيضاً. فبعد سنين وَضعتْ فيها التنازلاتُ المتلاحقةُ دلالةَ فلسطين، الجغرافيّة والتاريخيّة، في موقع الالتباس، عادت دلالاتُ هذا الاسم لتحدَّد بدقّة. فقد قال فلسطينيّو 48 وهم يشيِّعون شهداءهم: “نسير على دربكم حتى تحرير القدس وفلسطين”، متجاوزين التباساتِ السياسات والكيانات الطارئة.
هل يبدو هذا مثلَ تفاؤلٍ زائد؟
ربّما، ولكنْ عندما يحدِّد الشعبُ توصيفاً دقيقاً لوضعه، فسوف يكون تحرُّكُه بحسب هذا التوصيف. وإذ يقول إنّه واقعٌ تحت الاحتلال، فهذا يعني الشروعَ في مقاومته. قد يتمّ اختيارُ الأشكال المناسبة لذلك، من دون تلقّي توجيهاتٍ أو إملاء. نتحدّث هنا عن شروعهم في التأثير أكثرَ من التأثّر، وفي مواجهة قوةٍ طاغيةٍ تملك أيضاً الكثيرَ من أدوات الردّ ووسائله، وإنْ كان سينهكها تماماً انتقالُ كتلةٍ بشريّةٍ فاعلة من موضع العيش في ظلّ المفارقة إلى العيش في ضوء هويّة محدّدة ووافرة الوضوح.
عن موقع جامعة الأمة العربية