خفايا المحفظة السوداء
مازال التشوّه ذاته منذ سنوات يعتري بنية إيرادات الخزينة العامة للدولة، ولا سيما في الحيّز المتعلّق بالحصيلة الضريبيّة.. تشوّه هائل ينطوي على سلسلة اتهامات تتصل مباشرة بمفهوم المسؤولية الوطنيّة، الذي أمسى اليوم بالغ الحساسية لاعتبارات لصيقة بمحنة بلد، وأزمة أنتجتها حرب تعادل بسنواتها الثماني.. حرب المئة عام.
ولعلّنا سهونا، عمداً أو عفواً، عن حقيقة أن 80 % من الوارد الضريبي الكلّي يدفع به القطاع العام باتجاه الخزينة العامة، ونحن نتحدّث بنبرة ثناء عن أن حصة القطاع الخاص من نواتجنا الإجمالية على مرّ سنوات وسنوات قاربت الـ 70 %.. تناقض هائل يحمل في المفارقة بين هاتين الحيثيّتين، مسوّغات الشروع فوراً بورشة “جراحيّة” لمعالجة هذا الخلل المزمن، وستكون جراحة شاقّة ومضنية، لكنها خيار باتجاه واحد على من يملك بديلاً له أن يوافينا به بلا تردّد.
من هذه المفارقة نلج بوابة رؤية أخرى لمعاينة المشهد البانورامي لاقتصادنا المحلّي، ورصد الحصص والنسب بين مدخلاته ومخرجاته، أي بين نسب المساهمة وحصص حائزي المخرجات، وهم بالتأكيد أصحاب العمل لا القوى العاملة.. ونتحدّث هنا بمنظور عملي، بعيداً عن كل النظريات التي باتت بائدة اليوم، بعد أن شغلتنا طويلاً بفلسفة الإنتاج وفضل القيمة والعائد والبروليتاريا وأشياء من هذا القبيل، فالوقائع هي من يولّد النظريات وليس العكس.
وكي لا نبقى في الحالة السّردية.. سننتقل إلى رصد واقعي لأحدث فصول المواجهة، وربما أولها بالمعنى الدقيق لمفهوم المواجهة، مع الهاربين من مسؤولياتهم شاغلي مضمار واسع الطيف من مساحة الاقتصاد السوري المنهك، لا بالحرب هذه المرّة، بل بحراب أهله المتعيّشين والمتكئين على موجودات بيئته من ألفها إلى يائها.
بالأمس بدأ الصراخ المرشّح للتعالي أكثر وأكثر.. والسبب قرار اهتدت إليه وزارة التجارة الداخلية أخيراً، لوضع مكلفي ضريبة الدخل المقطوع المفترضين، من أصحاب المحال التجارية والحرفيّة أمام مسؤولياتهم التقليدية، والمَمسك كان مفصل تجديد السجل التجاري، وكان الاشتراط تسجيل العمال وفق شرائح أعلاها 6 عمال وأقلها عامل واحد، مع براءة ذمّة ماليّة هي التي ستكشف سنوات من الارتكاب والتسلل لاختلاس مسالك العبور بين سنة ماليّة وأخرى بمساعدة موظف استعلام فاسد ومحابي..
قرار استهجنه “آكلو دسم البلاد” في الوسط التجاري، وهنا كانت دواعي صدمة من راقب، ودهشة من تساءل عن أي اقتصاد مشاعي يقبل بوجود هؤلاء واحتوائهم، مهما كانت درجة فعاليتهم وضرورتهم، حتى لو كانوا أوكسجينه وأكسيره؟؟.
هو إجراء بسيط تمّ بقرار، لا يكلّف محل في أرقى مناطق دمشق بأكثر مما يدفعه موظف قطاع عام كضريبة سنوية على الراتب، إلّا أن حصيلته ربما تصل إلى 200 مليار ليرة سنوياً، رغم هزال القيمة كانت المخاتلة والتسويف والهروب، خيارات مخجلة لم يتردّد أصحاب مبدأ “النق سياج الرزق” في الزجّ بها.. فكم بوسعنا وكم في جعبتنا من قرارات كفيلة بأن ترتقي بإيرادات الخزينة لأضعاف ما يُحصّل حالياً من “فُتات”؟؟.
لن ندخل في دوّامة التشخيص والفرز والإحصاء، لكن يخطئ من يظن أن ليس بمقدور الدولة وليس مجرّد الحكومة، أن تبلور “داتا” دقيقة لكل الفعاليات العاملة في البلد، بما فيها ورش الظل، لزجّها في سياق المسؤوليات الجديدة والمترتبة كاستحقاق للدفع نحو سورية ما بعد الأزمة وليس ما قبلها، كما يخطئ من يدّعي أنه مازال في الوقت متسع لترك العابثين يسرحون على مسرح الحياة الاقتصادية، فالاقتصاد عبارة عن أرقام بمناهجه ومفرداته ومخرجاته، وليس وجدانيّات، والحالة العبثيّة لا تنتج إلا اقتصاداً عبثياً، وهذا ما لم يعد لنا طاقة به اليوم.
الفائزون بالحصّة الأكبر من مصفوفة “الحقوق”، عليهم أن يتصدّروا قائمة “أصحاب الواجبات”، وهذه معادلة أخلاقية المنشأ، قانونية الإقرار، واجبة التنفيذ بلا استثناءات.
ناظم عيد