ثقافةصحيفة البعث

بديع جحجاح.. الدراويش في مواجهة القبح

ليست قصيدة (يا نسيم الريح قل للرشا) “الحلاج”858-922،-غناء “مارسيل خليفة”- التي تتهادى على إيقاعها الضربات الرشيقة لريشة للفنان التشكيلي السوري بديع جحجاح -1973- إلا جزءاً من الحالة أو من الطقس الذي يحياه وهو يختبر ألوانه بعناية العجائز ومتعة الأطفال، باكتشاف البديع من الأفكار التي تنداح كموال سوري عتيق، من تلك الريشة وهي تسيل على القماش الخام كالندى الملون، تاركة خلفها دما قانئا بلون ورد الحكايات البعيدة.

الريشة لا تبدو في الفيلم القصير (مولاي زدني) بأجزائه الثلاثة والذي يظهر فيه “جحجاح”، يعمل على إحدى لوحاته الشهيرة بالثيمة الأحب له أو الموضوعة التي وجد فيها ضالته الفنية والإنسانية معا، “الدرويش” بما تمثله عوالمه، وطقوسه ورموزه وعلاقته بالحياة، وإيحاءه الذي يدور في فلكه، فالفنان الذي تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1996، وذهب في أصقاع الأرض يبحث عن هويته الفنية، وجدها عندما أشعلت الحرب أوارها، فكان في رحلة عكسية خلافا لمعظم الفنانين الذين أخلوا المكان، وكما يصعد سمك السلمون بغريزته التيارات ويخوض بمشقتها ليصل مسقط رأسه، حيث يعيد تكوين الحياة، خاض بديع مع فكرته الصوفية عالية المزاج، التي بدأت تتبلور صورتها الواضحة لديه، منذ عام 2011.

الحوار الفني الذي يقوم عليه عمل “بديع جحجاح” بما يحمل من أبعاد بوحية جامعة، لاقت صدى واسعا محليا وعربيا وحتى عالميا، فالمشروع الفني بخطابه الرائق، وتوجهه نحو المحبة المختصرة بكلمة “حبق” والتي هي عكس كلمة “قبح”، لا تعترف إلا بالإنسان، بمداركه وآفاقه، بدواخله وهواجسه، بغض النظر عن أي خلفية فكرية أو دينية جاء منها، وهذا المشروع كان هاجسه -كما يرى بديع- هو كيفية تحول “الدراويش” من عالم الصورة والتجلي إلى عالم الرمز والمعاني، هذه الرموز التي خلقت في الحرب واستمرت وأزهرت في الحرب كما ستزهر في الانتصار، ستكون شاهدة على غياب الكثير من الفنانين التشكيليين في الداخل والخارج، الذين أهملوا هذا “المشرق”، المليء بالرموز والمعاني، على عكس فناننا الذي أعاد اكتشاف رموز جديدة، رموز “مؤنسنة”، فيها الصورة مختزنة داخل الكلمة، التي تشرق منها مجموعة قيم ونظم جمالية، يفوح ضوعها وتهب أُعطياتها، لمن أزال عن بصره وبصيرته، حُجب الكثافة والوهم، تاركا لما ارتكز عليه وعيه في مراحل عمرية سابقة من توق وشغف معلقا بين الجبال والسماء، أن يلتقط بحساسيته المرهفة، ذاك المعنى أو ذاك النور الكاشف لما خفي عن الآخرين من هذا الرمز أو غيره.

لا يزاول “جحجاح” الحب كمفردة مفرغة من جوهرها، فالدرويش “بديع” يحياها كعقيدة متنفسا معانيها مع كل نفس يخرج من صدره، ومنها أطلق مجموعة رموزه التي بدأها كما قلنا مع بداية الحرب، مشتغلا على مشروع بعيد الأمد، يقف الإنسان في مداه وفي عين تلك الدوائر أو الرموز، وهي “التكوين”، والرمز الثاني “ولادة أفلا45” الرمز الثالث “رباعية أفلا” التي تضم (أفلا تعقلون، تتفكرون، تتذكرون)، ثم رمز “الجوهر” و”والهمزة الساجدة” ثم المشروع الجديد الذي يعمل عليه وهو “المحبة” والتي أيضا كبقية الرموز السابقة، سيكون لها مفرداتها التي تشكل حالتها كما يعيها ويؤمن بتعدد مشاربها وينابيعها عند الإنسان السوري بكل أطيافه، إن كان ذلك في لوحاته ومختلف أعماله التشكيلية، وسيكون مع إطلاقه لرمز “المحبة”، أيضا ولادة فرقة دراويش جديدة تحمل اسم “أنسنة”، وهي عبارة عن موسيقى من روح المشرق، فيها دعوة مفتوحة عبر السمع والبصر والتبصر، إلى تحول الإنسان السوري بعد هذه الحرب الضروس التي عاشها وتعايش معها، إلى ضفة الإنسان الكوني، وبذلك تكون دائرة سعيه ودورانه من أجل الارتقاء ببنية الفن وجعله متاحا للجميع، من خلال شراكاته الاجتماعية وأيضا من خلال تحرير حال اللوحة الشرقية واستعادة هويتها المخطوفة، وذلك باستعادته لرموز يُجمع عليها السوريون وسيجتمعون عليها في القريب كما يتمنى ويأمل في عمله الذي لم يعد فنا محضا، بل هو أقرب إلى حالة استنهاض وتكوين، للحياة التي ألفها وعرفها في الديار، تلك التي لونت روح الفنان فيه بلونها كما كلمتها، إنهما في وجدانه امتداد وتكامل وبهما يقوم الفن.

لوحة الدراويش التي يعمل عليها في تلك الدقائق المصورة، وهو في حالة تماه مع المطلق وما يرمز له دورانه من ارتقاء للاتحاد بالحب الأسمى، هي السمة المميزة في مختلف أعماله، التي تزاوج بين الخط واللون، مشتغلة بحرفة وحرفية حساسة، دقيقة لا مجال للاعتباط فيها، فتلك الطرابيش النبيذية اللون، وتلك الحركات التي تبدو وكأنها تبدأ بالطيران لحركة “الدرويش”، تضع من يشاهد الفيلم القصير (مولاي زدني) بالأجواء العامة للحالة الحرة التي يحياها فناننا وهو يخترع تلك المواءمة الخاصة أو الروحية كتعبير أدق توصيفا، بين الخط العربي بمختلف زخرفاته البديعة، وبين فهمه الخاص للون وما يمكنه أن يقول.

يحكي بديع بشيء من الأسى عن عدم وجود مشروع فني متكامل أو يتجاوز الحدود الفردية، للعديد من الفنانين الكبار الذين هاجر منهم من هاجر وانكفأ منهم من انكفأ عدا عن العديد من الحالات السلبية التي أيضا أظهرت الحرب معدنها الحقيقي، لذا يرى “جحجاح” بأنه لا يوجد اليوم حالة فنية “نخبوية” بقدر ما نحن أمام حالة “شللية” أقرب إلى المرضية بل ومغرقة في الشخصانية، وهي لم تنتج مسلكا تنويريا يكون بمثابة نور يُهتدى به، في الوقت الذي تجاوز فيه كفنان فكرة اللوحة المسطحة على جدار، ليصبح مشروعه برموزه المختلفة، ونتاجه الفني المتنوع، بين أيدي الجميع، يحيا يوميا معهم، إن كان في لوحة فنية بإمكان من يريد اقتناءها أن يقتنيها، فالأرقام الفلكية التي يُسعر فيها العديد من الفنانين نتاجهم، لا تنطبق على نتاجه الفني، أو قطعة مجوهرات بسيطة وعميقة في آن، تختزل بصياغتها الرؤية الفكرية والروحانية لهذا المشروع.

بديع جحجاح فنان سوري معجون من تراب هذا البلد ومائه، صدّر حالة سورية مشرقة في حلكة زمن الحرب، فكل القبح الذي مورس على بلاده، كان لا بد له من مواجهة جمالية شكلا ومضمونا، وما شتلة الحبق التي تنتشر في الغاليري الخاص به “ألف-نون” والتي يخرج بها الزائر من الصالة وهي بيده وعطرها في قلبه، إلا الشكل والمضمون لهذه الحالة الجمالية، وهي تحتاج كما يرى بديع إلى جسر من “حب” لإدراك تجليات الخالق العظيم، و”حق” لتكريس العدل بين الناس، والفن يستطيع أن يفعل ذلك، طالما أنه صادق مع ذاته أولا ومع الآخرين.

تمّام علي بركات