الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في النهاية.. في الحقيقة!؟

 

د. نهلة عيسى

منذ يومين تلقيت ربما أجمل كلمات مواساة وعزاء في حياتي, عندما اتصل بي صديق قديم من بلد أجنبي درس اللغة العربية في سورية في ثمانينيات القرن الماضي, وحكومة بلاده الآن وفي الحقيقة في كل آن, فاعل سلبي رئيسي فيما يجري على أرضنا ولنا.

صديقي اتصل للسؤال عن حالي وحال الوطن, وعن شوقه الشديد للعودة إلى سورية للعيش فيها ولو شهور, ثم ونحن في أتون الحوار حول السابق واللاحق من حربنا المجنونة, سألني فجأة: هل صحيح أن لديكم أزمة معيشية تهدد بانفجار داخلي ربما يفوق في تداعياته وآثاره السلبية ما حدث جراء الحرب؟ قلت: بالتأكيد لدينا أزمة فنحن نعيش حصار الحصار, ولو استطاع بلدك وحلفاءه قطع الهواء عنا وعن من يدعمنا لفعلوا, ناهيك عن الإدارة الحكومية المتعثرة لشؤون البلاد والعباد! إضافة إلى أن لدينا كما في كل حرب, طابوراً خامساً عامداً أو متغافلاً يزيد الأزمة أزمة بإخراجه لوقائع الحال من سياقها الطبيعي وربطها فقط بالأداء الحكومي, مما يخلق عدواً شعبياً مبالغاً في أهميته ومن السهل التصويب عليه, رغم أنه ربما أقل العوامل تأثيراً وفاعلية فيما يحدث ويجري. رد الصديق: أعلم أن حربكم طويلة, وأنه إضافة لرجالكم الذين يستشهدون على الجبهات, أن أجيالاً من الشباب قد رحلت إما بالموت أو الهجرة, ولكن صدقيني وفقاً لما أسمع, وأتابع, وأرى, لا خوف عليكم, لأنه كما لديكم جهال, لديكم مخزون هائل من العقل والصبر قد يغطيه أحياناً الحزن, الانفعال, لكن عندما يستلزم الحال يظهر العقلاء, ويتوارى الجهال, وقبل أن أجاوب, هطل في قلبي المطر, فسارعت بالرد قبل البكاء: يسعدني أن من عاشرنا يعرف أنه لا خوف من السوريين على الوطن.

فعاجلني بالكلام: ياصديقتي أعرف سورية ربما أكثر من بلدي, درست في جامعاتها, سكرت في حاناتها, وصاحبت عازف العود فيها بالغناء, وخرجت من سهراتي لأتشاجر في حواريها بلغة نصف عربية ونصف أعجمية, واشتريت من على أرصفتها السجائر المهربة, وفي الجامعة رهنت قلبي لجميلة سورية, وأنت عن ذلك تعرفين, اشتهيت أن أكون حتى ولو باباً لغرفتها, قالت لي في ليلة صيفية: ربما أحبك, ولكن أيكون خارج دمشق, هو زقاق, أو مضيق, يارفيق: ابق معي, وإلا فذكرياتنا معاً هي مني لك هدية!.

واستمر في الكلام, لم يترك لي مجالاً لجواب أو سؤال, يا صديقة: أعرف وطنك أكثر مما أعرف نفسي, ففيه اكتشفت نفسي, وفيه للمرة الأولى أدركت من أنا, عندما في صباح تشريني مثل هذه الأيام, وصلت مطارها, شاباً صغيراً, يغادر بلاده في خطواته البكر, يخيل إليه في كل متر يقطعه باتجاه بلادكم, أن سيف الحجاج في آخر المتر, كما كانت أفلام السينما في بلادنا عن بلادكم تقول, فيقف في منتصف المتر أعزلاً بين السيف والجدار, فتداهمه كتف امرأة تحث الخطى خارج المطار, فتستدير نحوه آسفة, فيصرخ في وجهها وهو ينهار: تعتذرين عن ماذا تعتذرين؟ أنا غريب لا حول لي ولا شأن, بكتفك العابرة قايضت خوفي, فلا تعتذري, فتسمرت المرأة في أرضها, وغرست في قلبي عينين بلون البحر, ونطقت بإنكليزية محببة بما معناه “أهلا بك أنت في بيتك”, فنما على سياج قلبي منذ ذاك الصوت, ياسمين دمشق, قد يخفت يا صديقة صوت الحق, ولكن ستبقى سورية تقول الصدق.

تركته يتابع, هو اتصل ليعترف, وليس للمسامرة, فحشوت فمي بالصمت, وانتظرت, فأكمل: هل تصدقين منذ بدأت هذه الحرب عليكم, أشعر بالعار، أتخيل دمشق, أو حلب, تضحك وهي على الأخشاب تدق, مصلوبة على باب الأمم المتحدة, فأتلمس أصابع قدميها مابين الدهشة والتكذيب, وأحشو جراحها بالورق, وبالثرثرة, حول ما يجب, وما سوف, وما سيكون, ثم أحملها لأواريها في ضريح, وأبكي أننا وطوابيرنا الخامسة نساهم في قتلكم, فسابقته إلى الكلام, يا صديق: لا تبكي وجوهنا ليست مغبرة, ونحن في الوطن, ننفعل, نشكو, نشتم, لكن في النهاية.. في الحقيقة, نحن في طوابير.. كلنا للوطن.