ذكريات بلهفة الحب
سلوى عباس
في لحظة من غربة الروح أرسل يحدثها عن افتقاده لها في غربته البعيدة، وعن حاجته لأن تكتب له لتقرّب المسافة بينهما فخاطبها: يبدو أننا نسينا ونحن نتوادع أن نذكّر بعضنا بأننا سنبتعد آلاف الكيلو مترات، ولم نعط وقتها للحبر ولحروف الكتابة قيمتها التي لا يمكن لأحد أن ينكر تأثيرها بمنحنياتها العاطفية، ونقاطها التي تختزن رجفات القلوب. لا يمكن لأحد أن يتجاهل دورها في ربط قلبين، ودورها الرائع –يوماً- في الكلام حين يتعثر اللسان في استحضار كنوز الحالات، والعثور على حروف صوتية حين تغص الحناجر بالارتباك وتطغى حرارة الحب على رصانة اللغو وعبث الكلام.
أحتاج الكثير.. أحتاج أن يغمرني فرح وصول رسالة، أن أرتبك وأترك “شغل الذهب” هاماً بقص جانبها ورمي ذلك الشريط الرقيق المزين بالأزرق والأحمر من جانب الرسالة صاباً اهتمامي على ما يحتويه ذلك الورق البهي المطوي بحنان داخل المغلف الدافئ، وأن أسرع بإخراج أسراره، وفك أسره الطويل أثناء رحلته البعيدة.. أن أقصّر فترة انتظاري ولو للحظة، أن أقصّر الوقت الممتد بطيئاً بين رسالتين.
أحتاج أن أعود حياً في كنف انثناءة الورق، وبين حنايا الحروف، متمدداً بين السطور، سابحاً بين النقاط، ملتقطاً بعضاً من أنفاسك التي علقت في مسامات الورق، باحثاً عن ذرات عرق تشربها البياض من اتكاء رسغك عليه.. مفتشاً عن رائحتك التي تسكن في قلبي، وترتكن بقاياها في أنحاء الرسالة، ألملمها قبل أن تذريها حرارة أصابعي الحمقاء.. من يراني حينها يظن أني أقرأ رسالة، لكنني أكون أعيشها، أكاد أتلاشى فيها، أغدو أحداً آخر غيري، لا أعرف من هو تماماً، لكنه يشبهني، وأحب كثيراً أن أكونه.. ساعديني مرة أخرى أن أكونه.. حاولي أن تساعديني دائماً أن أكونه، فأنا أفكر فيك وأشتاقك، لأستقوي بك على الظرف الذي أنا فيه، فالتعب الذي يرهقني يهون ويسهل حينما تحضرين أمامي في الحلم أو في اليقظة، وقتها أحس أن لهذا الاغتراب جانباً إيجابياً علي أن أتمسك به لأنه يخصنا، فكوني معي دائماً، أعدك أن الوقت سيكون أكثر رحابة وسيتسع لما أكنّه لك من محبة.
كان لهذه الكلمات وقعها المؤلم، فقد عاشت تجربة الحب أكثر من مرة، لكنه وحده فقط حلّق بها في سماءات لا تعرفها، استلّ قلبها من رماده، وأشعل فيه دفئه المدهش، واستمطر نجومه على قلبها، هو وحده من أمسك بها وقرأها ككتاب.. هنأ صفحاتها بوقع التماع عينيه على أوراقها.. هدأت روحها بين يديه، وأسكن فيها السلام.. فكتبت له عن الزمن الذي مر عليها ولم تحلّق روحها في فضائه.. لم تتوضأ بصوته.. لم تستضيء بصباحه.. لم تتعمد بياسمينه.. كتبت عن الزمن الذي مضى ولم تحتجزها عيناه إذ يكتشفها تختبئ في دمعتيه تكفكها ببنفسج قلبها..
كتبت له كم تحتاجه.. كم تحتاج أن يهدئ اضطرام اشتياقاتها، ويربت على قلبها المتوتر كي يعود إلى صوابه.. أن يمسح غبار روحها كي تكف عن جنونها كشمعة تسكب ضوءها السحري في عتمة القلب..
الآن وبعد سنوات طويلة من الفراق.. ما فائدة كل ما كتب.. وأين هي من هذه الكتابات والسنوات التي قضتها مصدّقة لهذياناته التي كان يخترعها ليخفف عن نفسه عبء الوحدة وتعب العمل، إنها ذكريات كان لها في حينها الكثير من اللهفة.