روسيا أكبر من البروباغندا
طلال ياسر الزعبي
تزايدت في الأعوام الأخيرة الحملات المناوئة لروسيا بشكل مضّطرد، فلا يكاد يُغلق ملفّ له علاقة بشيطنة روسيا حتى يُفتح ملفّ آخر، ليس الغرض منه الوصول إلى نهايته لأن أحداً من الذين يتهمون موسكو بهذه الأعمال لا يستطيع إكمال المسرحية حتى نهايتها، بل لأن الغرض أصلاً تشويه صورة المارد الروسي الصاعد من تحت الرماد، وصولاً إلى إشاعة صورة نمطية عن هذا البلد بوصفه دولة لا تحترم القوانين والأنظمة الدولية.
وبالنظر إلى جميع الاتهامات الموجّهة إلى روسيا في الآونة الأخيرة، نلاحظ أن جميع هذه الاتهامات تصبّ في خانة واحدة هي تشويه صورة هذه الدولة والقول إنها لا تستحق أن تكون عضواً في النادي العالمي الجديد، بمعنى أن دولة تمارس القرصنة في دولة أخرى هي بريطانيا مثلاً عبر استهداف ضابط الاستخبارات الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا على الأراضي البريطانية بغاز الأعصاب، لا يحقّ لها أن تتحدّث عن حقوق الإنسان أو احترام القانون الدولي أو قرارات المنظمات الأممية وخاصة ما يتعلّق هنا بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكان الهدف هنا خصوصاً ضرب صدقية روسيا في الدفاع عن سورية في مسألة الاتهامات الغربية الموجّهة ضدّها في استخدام السلاح الكيميائي، وبالتالي القول: إن روسيا لا يحقّ لها الدفاع عن سورية في هذا المجال لأنها هي ذاتها تنتهك قوانين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وذلك تمهيداً لاتخاذ ذلك ذريعة للاعتداء على سورية من خارج مجلس الأمن.
ولو ذهبنا غرباً باتجاه الولايات المتحدة والاتهامات الموجّهة إلى روسيا بشأن التدخل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة لمصلحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مواجهة المرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون، لوجدنا أن الأمر لا يعدو كونه مجرّد محاولة لإثبات أن روسيا تتدخّل في شؤون الدول الداخلية، وبذلك لا يحق لها مطلقاً أن تتحدّث عن تدخّل غربي فاضح في شؤون دول العالم الثالث لأنها هي نفسها تمارس مثل هذا التدخل.
والأمر كذلك إذا ما نظرنا إلى جميع الحملات الموجّهة ضدّ روسيا ابتداء من الحديث عن القرصنة الإلكترونية، وليس انتهاء بالاستفزازات الغربية الأخيرة لروسيا عبر أوكرانيا في قضية الخرق الذي قامت به ثلاث سفن أوكرانية للحدود الروسية في بحر آزوف، حيث أريد من هذا الأمر توجيه الاتهام إلى روسيا بعدم احترام قانون الملاحة الدولي وبالتالي اتخاذ ذلك ذريعة لحلف شمال الأطلسي “ناتو” للدخول إلى هذه البحيرة شبه المغلقة تحت هذا العنوان.
وفي المقابل نلاحظ أن الجانب الروسي يكتفي في الردّ على ذلك بإبراز منجزاته في جميع المجالات، دون الاكتراث بكل المحاولات الغربية التي يُراد منها إيقاف هذا المارد عن النهوض، فيعمل تارة على إظهار إنجازاته العسكرية التي تؤكد أن كل المحاولات الغربية لاستهداف روسيا عبر الناتو ستبوء بالفشل وسيكون الحلف عاجزاً بشكل أو بآخر عن تحمّل تبعاتها إذا ما فكّر في ذلك، كما أن إنجازاته على الصعيد الإلكتروني كذلك تدحض فكرة أن روسيا منشغلة في عمليات القرصنة التي تشير إلى عجز الطرف القائم بها عن الوصول إلى التكنولوجيا الإلكترونية بإمكاناته الذاتية، وبالتالي يصبح مضطراً إلى سرقتها، وهذا الشيء ينسحب على سائر المجالات.
على كل حال، يستطيع المراقب لما يجري الآن على الساحة الدولية أن يدرك أن هناك عالماً جديداً يتشكّل، أو كما قالت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كوندوليزا رايس في عهد الرئيس بل كلينتون: “العالم يشهد ولادة شرق أوسط جديد”، وهو المكان الذي تعدّه واشنطن قلب العالم، وبالتالي تدرك واشنطن وغيرها من العواصم الغربية أن مناطق النفوذ في هذا العالم تتغيّر بشكل دراماتيكي ولابدّ من حجز موقع متقدّم لها فيه، بعد أن تأكد أن هناك لاعبين قادمين إلى الساحة الدولية وعلى رأسهم الصين وروسيا، ولذلك يحاول الغرب بكل الوسائل إعاقة هذا الصعود بشتى الوسائل، وبالتالي لابدّ من صناعة مشكلات أو أزمات تعيق هذا الصعود، وهذا ما لا يستطيع الغرب ضمان نتائجه، لأن عجلة التغيير قد بدأت ولا يستطيع أحد إيقافها، وأضعف الإيمان أن يمارس الغرب نوعاً من الإعاقة لهذا الصعود عبر مصطلح “روسوفوبيا”، لأن المسألة هنا أصبحت مسألة وجود وليست مسألة تعايش، حيث إن الصعود الروسي الصيني سيقابله انهيار في المحور الآخر، وهذا ما يثير الرعب في الغرب فعلاً.