دراساتصحيفة البعث

الحروب كأسلوب لإدارة العلاقات الدولية

 

باسل الشيخ محمد

أيهما هو الحالة الاعتيادية وأيهما الطارئة: هل الأصل في العلاقات الدولية هو التنازع بين الأمم وما السلام إلا هدنة تطول وتقصر، أم أن الأصل هو حالة السلم أما الحرب بمختلف أشكالها- هي الحالة الطارئة عليها؟.
يدرك المتأمل في تاريخ الحروب منذ بداية التدوين المكتوب أن الحروب ما انفكت هي التفاعل الأساسي بين أهم الإمبراطوريات والممالك ما قبل مراحل الدولة الحديثة، في حين أن الدولة الحديثة التي اتخذت شكلها بعد معاهدة وستفاليا1648 ما كانت لتنشأ – بحسب البعض- لولا تنظيم هذه المعاهدة للعلاقات بين الدول، أي أن مبدأ سيادة الدول والولاء للمجموعة البشرية – وليس للكنيسة- ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ردود أفعال على الحروب التي استمرت في أوروبا لثلاثين عاماً.
كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، ربما كانت الولايات المتحدة ستبقى دولة معزولة بين محيطين تتمتع بالاكتفاء الذاتي دون دور واضح في التأثير على العلاقات الدولية، وربما كانت حدود بعض الدول الأوروبية بقيت على حالها في أطر جغرافية غير تلك التي نشاهدها اليوم على الخرائط. نظرياً: ليس من عامل كان سيؤدي إلى نفس النسق الدولي الراهن لولا الحرب العالمية الثانية، بل إن الأمم المتحدة نفسها لم تكن لتوجد كإطار عمل لولا وجود تلك الحرب وإنشاء الأمم المتحدة كجهاز دبلوماسي يحول دون وقوع حروب وأزمات دولية (!!) بعد أن فشلت عصبة الأمم من قبلها في تحقيق هذه الأهداف.
مع توسع مفهوم الحرب ليشمل مفاهيم الحروب الاقتصادية والتجارية والالكترونية والإعلامية فضلاً عن دخول التقانة في المجال العسكري باتت مجالات التأثير مختلفة ومتباينة، لكن تباين الاعتبارات لكل كيان دولي هو العامل الأساس في بدء حرب من أي نوع من عدمه. ليس من الواضح معرفة نوايا كل طرف دولي، وليس من المعروف سبب تصريحات ماكرون العزم على تشكيل جيش أوروبي موحد، إلا أن الواضح هو أن وجود النية لإنشاء كيان عسكري موسع يعني استمرار النزاعات في الأجيال المقبلة، سواء ترجمت هذه الفكرة إلى جسم عسكري حقيقي أو أن جرت محاولات احتواء فرنسا وألمانيا أياً يكن شكل ذلك الاحتواء.

بدايات بلا أسس
صاغت الإدارة الأمريكية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي مفهوماً جديداً سمته “الحرب الطويلة” ويقضي ذلك المفهوم بشن حرب على الإرهاب أينما وجد، أعيدت تسمية هذا المصطلح ليغدو “الحرب العالمية على الإرهاب” ويتحول إلى حملة عسكرية واقتصادية وثقافية، ثم جاء بوش الابن ليعلن أن هذه الحرب لا تهدف فقط إلى ” القضاء على الإرهاب” بل”وعلى الدول الداعمة له”.
ما نسيته الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي هو أنه ما من تعريف واضح أو محدد للإرهاب، ورغم أنه يعرّف على أنه إحدى وسائل الإكراه في المجتمع الدولي، إلا أن غياب نص قانوني واضح له تقبل به كافة الأطراف يبقى اسماً يمكن لأي كان أن يستخدمه في توصيف ما من شأنه تهديد مصالحه.
ويدرك القارئ أن اللغة القانونية المستخدمة في بعض وثائق الأمم المتحدة هي لغة حمالة أوجه لسبب أو عدة أسباب لا مجال لشرحها الآن. يناقش البعض فكرة مفادها أن وصف ظاهرة الإرهاب جاء بألفاظ فضفاضة ليستعمل كيفياً وقت الحاجة من قبل بعض أطراف الأمم المتحدة، ولكن حتى إن لم يكن الأمر كذلك، فإن العجز عن توصيف ظاهرة الإرهاب توصيفاً دقيقاً يمكن الرجوع إليه كمستند وافٍ هو بحد ذاته قصور في عمل الجهاز القانوني في الأمم المتحدة نفسها.
من الناحية الوظيفية: استبدل الخصم السوفيتي بخصم آخر، الفارق بين الخصمين هو أن الخصم الأول محدد الملامح في حين أن الخصم الثاني تسمية تنطبق مرة ولا تنطبق مرات على من تشن الحرب ضدهم، تماماً كما حدث مع اتهام الولايات المتحدة للعراق بتمويل تنظيم “القاعدة” والتنسيق معه، لكن من الناحية الوظيفية أيضاً: ألم يكن دعم حركة طالبان في أفغانستان خلال عقد الثمانينات صناعة أمريكية ممهنجة لتنظيم إرهابي يعد مظلة جامعة للتنظيمات الإرهابية الأخرى المتفرعة عنه؟.
مشكلة التسمية هي أنها تصدر من طرف في المجتمع الدولي وليس من عدة دول تشمل دولاً حيادية عن مصالح بعضها البعض، ناهيك عن عدم وجود سلطة عالمية مركزية عليا لا صوت يعلو فوق صوتها. بمفهوم الكلمة الأشمل للحرب، هنالك حرب تجارية شنتها الولايات المتحدة على الصين، حذر البنك الدولي يوم 8 كانون الثاني من هذا العام من مضاعفاتها على الاقتصاد العالمي. توازي هذه الحرب حرب أفكار وحرب إعلامية وأخرى سياسية تصطف فيها دول إلى جانب دول لتعادي أخرى.
إذن كيف لنا أن نصف واقع العلاقات الدولية منذ عقدين تقريباً وحتى الآن، هل هو استدامة الحرب بمجرد وصف طرف ما بأية صفة جديدة، وماذا عن الأطراف التي لا علاقة لها بطرفي الحرب، هل ستجد نفسها مضطرة للوقوف إلى جانب طرف ومعاداة آخر؟ هل ستولد مفاهيم جديدة مثل “حروب مصادر المعلومات” و “حروب أسواق النفط والمواد الأولية” أو “حروب حصص الأسواق”؟.

تصنيف مبدئي لأشكال الحروب المقبلة
بأقل كلفة مادية وبشرية، وبأغلب احتمالات الاستدامة، يمكننا القول بشكل مبدئي أن الحروب التجارية والاقتصادية هما ركيزتا الصراعات المقبلة، أبسط مثال على ذلك هو عدد الذين قضوا في العراق بسبب قلة الدواء الناجم عن الحصار الاقتصادي قبل غزو عام 2003، وإذا كان تدمير البنى التحتية هو أحد خسائر الحروب فإن توقف شركة “ZTE ” للهواتف المحمولة عن العمل لم يكلف قنبلة واحدة.
قد تحمل الأيام المقبلة شكلاً جديداً للحروب يهاجم البشر في أوطانهم دونما هجوم مادي عليهم، ولئن عادت شركة “ZTE” إلى العمل مجدداً، فإن عودتها هذه هدنة مؤقتة جرت قبل بداية الحرب التجارية الراهنة.