ضرورة الفن.. وهم أم حقيقة؟
يرد في كتاب “ضرورة الفن” لمؤلفه “إرنست فيشر”1918-1973الذي نُشر عام 1959 ما يلي: “من الجلي أن الإنسان يطمح لأن يكون أكثر من مجرد كيانه الفردي، يريد أن يكون أكثر اكتمالا، فهو لا يكتفي أن يكون، بل يسعى للخروج من جزئية حياته الفردية، إلى كلية يرجوها ويتطلبها، إلى كل كلية تقف فرديته بكل ضيقها حائلا دونها”، فالإنسان حسب “فيشر” يسعى إلى عالم أكثر عدلا، وأقرب إلى العقل والمنطق، كما أنه بحاجة للحديث عن شيء أكبر وأكثر من “أنا” الفردية، يريد شيئا خارجيا وهو مع ذلك جوهري بالنسبة إليه، كما أنه يريد أن يحيط العالم المحيط به ويجعله ملك يده،”وهو عن طريق العلم والتكنولوجية يمد هذه “الأنا” المتطلعة، المتشوقة لاحتواء العالم”.
كلام فيشر يجيء وكأنه تنبؤ فكري فلسفي اجتماعي تقني، بما آلت إليه الأحوال العامة للإنسان عموما، الإنسان الذي يمكن وصفه اليوم وحسب القاعدة الماركسية الشهيرة التي تقول بأن: “الإنتاج يحدد الوعي” بكونه كائنا رقميا، وهذا تقريبا ما اعتمدت عليه في توجهها الصناعي أيضا “القارة العجوز” في قمة ثورتها الصناعية، التي كان لها عظيم الأثر في الفنون والفلسفة والفكر الحر بشكل عام، تلك التي أنشأت المدارس الفكرية والفنية عبر التاريخ، وقدمت أهم وأجمل وأفضل ما اكتنزه العقل الجمعي العام في العلم والجمال إلى العالم،ضربا من ضروب الرفاهية، وليست ضرورة كما يؤكد فيشر، الذي استقرأ أن الطموح الفردي، لا يتوقف عن “الأنا” بل هو يذهب لتجاوز العالم والإحاطة به، وهذا تحقق نوعا ما بعد أن تحققت العديد من مفردات “العولمة”، منها بل ربما أهمها “الأنترنت”، وأصبح ما كان من ضروب الخيال واقعا، بل وواقعا جدا، الجميع متورط فيه حتى الأطفال-الألعاب الإلكترونية على الشابكة”، هكذا وعبر هذه الواسطة، صار بإمكان طموح الفرد بالإحاطة أو احتواء العالم حرفيا، قد حصل شكليا نعم، ولكن هل تحقق التطور البشري المرتبط بالاتصال الكوني، في سعي الإنسان للتواصل والإحاطة والاحتواء؟ واقع الحال اليوم لا يقول هذا، الإنسان اليوم في قوقعته، واتصاله مع الآخرين، يقف عند حدود التواصل الافتراضي إلا ما رحم ربي.
لكن كيف جرى هذا؟ وما هي الحال التي جعلت بين الإنسان ونفسه هوة عميقة، كان يعوضه إياها الفن بطريقة، طالما أنه في أحد توجهاته، ما هو إلا تعبيرا عن انعدام التوازن في العالم، وهل تحقق التوازن في العالم ليصير الفن الذي هو في جوهره ضرورة، حتى تصبح الآداب والفنون شأنا شخصيا بل وتجاريا مربحا، يخضع لقوانين التجارة وحساباتها العددية، لا للعقل، ممكن لرجل أعمال جاهل الآن، أن يفتتح قناة فضائية، لا تقدم إلا الترهات لا الفن، أو دار نشر لا تقدم سوى المحتوى السيئ في الكتب التي تطبعها وتقدمها للقراء.
في بداية التحول الصناعي الأوروبي، ترافق هذا التحول الصناعي والعديد من الأطروحات الفلسفية التي حاولت مجاراة التطور الهائل للصناعة، حيث مارس فلاسفة القرن العشرين في الغرب،أساليب التحليل أكثر من أية طريقة أخرى، ليخالفوا بهذا اتجاه الفلسفة ونوابغها في القرن التاسع عشر، ولتظهر العديد من المذاهب الفلسفية التي أعلت من شأن الفردية، مترافقة والوفرة التي حققتها الثورة الصناعية،وكان من تلك المذاهب “العدمية”التي تعتبر الإنسان في صميمها كائنا “عدميا”، فحسب “العدمية” التي تنقسم إلى عدة مذاهب “العدمية الميتافيزيقية/ العدمية المعرفية/ العدمية الوجودية/ العدمية الأخلاقية، العدمية السياسية”، كل شيء منته وليس لمرور الإنسان في الزمن أن يؤثر عليه، حتى لو اختفى البشر، إنهم “عدميون”، فليفعلوا ما يشاؤون في الحياة، دون ضابط أو قيد، طالما أن العدم هو مصيرهم الأكيد وليس خيارهم، فكل ما في العالم سواء ميتافيزيقي أو طوباوي، ما هو إلا وهم في وهم كما قدمته،ومن كل مذهب خاص بها، خرجت تيارات “فكرية” تحت مسميات عدة،دخلت أكثر فأكثر في المجتمعات التي لم تساهم في النهضة الصناعية، وبقيت على هامش العالم، كبلدان العالم الثالث عموما، وانتقلت الفلسفة المادية الوضعية والتي يُعتبر”أوجست كونت”- 1798-1857- عرّابها، والتي تُعلي عموما من الجانب العقلي، الذي خاض فيه أهم فلاسفة القرن التاسع عشر ونهايات القرن الثامن عشر، حيث خرجت العديد من المذاهب الفلسفية والدراسات والأبحاث، التي خالفت المذهب العقلي، والمادي الوضعي، ومنهم “شوبنهاور” -1788-1860- الذي كان يرى “أن المطلق ليس العقل بل إرادة عمياء ولا عقلية” أيضا الوجودية، ومن أهم منظريها ومنتجيها، “نيتشه” -1844-1900- الذي دعا لمراجعة كل القيم ونادى بعبادة الرجل العظيم، وعملت على التركيز أكثر فأكثر على عملقة الفرد تجاه المجتمع، وفي الحقيقة هي قامت بنفخه فقط لا عملقته، ليعود بذلك الإنسان أكثر فأكثر إلى الدائرة الضيقة لنفسه، محطمة أي طموح فلسفي في تغيير العالم إلى الأفضل، -هدف الفلسفة الأسمى-بل ولتعلي من شأن الفردية في نتاجها وهيمنة فكرها على غيره، حتى صار طموح الإنسان اليوم، – أيضا حسب العدمية- الانتقال من احتواء العالم والذهاب أبعد من “الأنا”، إلى العزلة بما تعنيه الكلمة من معنى، فلم يعد مفهوم كمفهوم علاقة الدولة بالفرد كما طرحه “هيغل” -1834-1919- قائما كشرط أساسي في بناء المجتمعات الحديثة، بل إنها أبعدته عن معظم الشؤون التي تخصه ككائن ميتافيزيقي-روحاني-، موقظة في أعمق نواياه ظهور أو تضخم “الأنا” الفردية، تلك التي كان فيشر قد بشرنا بها، في كتابه آنف الذكر، رابطا بينها وبين التكنولوجيا لتحقيق غاية هذا الاتصال.
الإنسان اليوم مكتف بذاته، لا حاجة به للآخر، لديه أداة اتصاله التي يحيط بها في العالم، أي أنه قادر للوصول إلى كل ما يريد من خلال تلك الأداة، والتي هي من النتائج البعيدة الأمد للثورة الصناعية، وعوض أن تكون أذرع التكنولوجية والعلم، هي الرافعة للمجتمعات البشرية، وهذا ما تحقق في أوروبا مثلا عقب الحرب العالمية الثانية 1945، صارت سلعة استوردناها لنساهم في استهلاكها كما لم يفعل أحد مثلنا، أقصد كعرب، وعوض أن تكون من روافع نهوضنا الصناعي والفكري والعلمي، صارت وسيلتنا للعزلة المشتهاة، والتي يبدو أنها موجودة في الجينات الوراثية لدينا.
يمكن أن نزعج “فيشر” في قبره اليوم، لنخبره بأن ما تنبأ به ذات يوم في كتاب، حصل، لكن بشكله الأسوأ، فليته لم يفعل.
تمّام علي بركات