أميركا والأحلاف الدولية
د. هاني سليمان
عضو المؤتمر القومي العربي
وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب على منصة الأمم المتحدة ليؤكد المشهد الدولي المأزوم الذي تحكمه العداوات والاصطفافات. فظّهر عداؤه الفعلي لممثلي ثلثي الكرة الأرضية.
وبالرغم من تعداده الصريح لمن تعتبره الولايات المتحدة في صف الأعداء كالصين وإيران وسورية وفلسطين وكوبا، فإن من تجاهَلهم الخطاب كانت ملائكتهم حاضرة، كالاتحاد الأوروبي ودول البريكس وغيرها من المنظمات والمجموعات الدولية. وإذا كانت السياسة قد شكلت عنواناً لكلمته فإن محتواها كان اقتصادياً بامتياز.
وبالرغم من الهدوء المدروس الذي اتسم به الخطاب، فإن وتيرته قد ارتفعت عندما تحدث عن عجز الاقتصاد الأميركي بما يزيد عن 800 مليار دولار أميركي ، وإقفال 60,000 مصنع وغياب مئات الآلاف من فرص العمل في الولايات المتحدة.
إن الإشارة إلى دور الصين تحديداً في هذا العجز، بسبب دخولها في منظمة التجارة العالمية، لا يخفي أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلات اقتصادية ومالية كبيرة وكثيرة، كانت السبب في فرض “الخوة” على بعض دول الخليج من جهة، وتقليص النفقات التي كانت تلتزم بها على المستوى الدولي.
وإذا تجاوزنا الجانب الاقتصادي إلى الجانب السياسي الدولي في سلوك الولايات المتحدة الأميركية، فإن الخطاب قد ركز على مسألة /جديدة قديمة/ وهي إقامة الحلف الدولي الجديد الذي يسعى إلى تشكيله مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، كون التحالف القديم قد وقف على رجل واحدة، وهي دول الخليج بعد خروج عدد كبير من الدول منه، فتعثّر في الوصول إلى أهدافه وانفرط عقده بخروج هذه الدول.
من استمع إلى الخطاب، يخرج بانطباع أن رئيس أكبر دولة في العالم يتحدث وكأنه زعيم حزب سياسي أو رئيس دولة مضطهَدة. وهنا نسأل هل أن المحاولات الدؤوبة لـ دونالد ترامب من أجل تشكيل الحلف الدولي، هو دليل قوة أو هو دليل ضعف؟
بالعودة إلى الأحلاف الدولية التي شهدتها أمتنا منذ سبعين سنة وحتى اليوم يرتسم أمامنا المشهد التالي:
إن من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية، هو اغتصاب فلسطين “وتطويبها” لدولة الكيان الصهيوني.
وبالنظر لأهمية منطقتنا العربية وحساسيتها الجيوستراتيجية، لم يكتفِ الغرب الاستعماري “بالمفعول الإعلاني” لهذا الكيان، بل لعب دور الولّادة، ولعب تالياً دور المرضِعة والحاضنة كي تقف “إسرائيل” على رجليها في المنطقة.
إذا كان لدور الدول الغربية الأوروبية مفعول إعلاني، بمعنى أن إعلان النوايا “بإنشاء وطن قومي لليهود”، قد وقع على عاتق بريطانيا كممثل للاستعمار القديم، فإن رعاية هذا الإعلان قد وقع في ما بعد، على عاتق الولايات المتحدة الأميركية كممثلة للاستعمار الجديد.
غداة الحرب العالمية الثانية نشأ على المسرح الدولي الغربي حلف “الناتو” لمواجهة ما يسمى بالخطر الشيوعي على المستوى الدولي، المتمثل بحلف “وارسو” الذي يرعاه الاتحاد السوفيتي السابق.
وفي السياق ذاته، وبالتزامن معه، جاء الإعلان الأميركي عن “حلف بغداد” سنة 1955، المتشكل من دول حليفة لأميركا، أبرزها العراق وباكستان وإيران وتركيا والأردن، لمواجهة المدّ القومي العربي المتمثل بمصر عبد الناصر وسورية العروبة وثورة الجزائر.
وفي حمأة المواجهة “لحلف بغداد” حصل القرار التاريخي بتأميم قناة السويس، وحصلت الوحدة التاريخية بين سورية ومصر، وأُسقطت الحلقة المركزية في “حلف بغداد” بإسقاط النظام الملكي في العراق على يد قيادة وطنية عربية يمثلها عبد السلام عارف، وانتصرت ثورة المليون شهيد في الجزائر.
بعد فترة من الزمن شهد “حلف بغداد” تصدعاً هائلاً في بنيته، تمثل بخروج بغداد منه بعد إسقاط نوري السعيد وإسقاط شاه إيران، وتحوّل إيران إلى دولة إقليمية وازنة معادية لأميركا وتوجهاتها في المنطقة.
تجدر الإشارة إلى أن اسم “حلف بغداد” بعد خروج العراق منه قد تحول إلى “حلف المعاهدة المركزية”.
بعد هذا التصدع، وفي ظل انتصارات المقاومة في لبنان على مدى عشرين عاماً، تحريراً للأرض عام 2000، وانتصاراً في حرب تموز 2006، وصمود سورية بوجه التهديد الأميركي بالاحتلال بعد احتلال العراق، وبعد تحرير العراق من الاحتلال الأميركي، وصمود الشعب الفلسطيني في غزة على مدى عقدين من الزمن.
بعد كل هذا، جاء الإعلان عن حلف جديد بحجة مكافحة الإرهاب والأصولية. هذا الحلف، لم تدخله مصر في الحرب على اليمن، وخرجت منه قطر، وانتفضت باكستان على حاكمها ونظامها، فانتصرت المعارضة الباكستانية المعادية لأميركا، واستعادت ماليزيا استقلاليتها بعد أن كان حاكمها أسير الفساد والتبعية الأميركية.
واليوم وبهذا الإعلان الجديد يحاول دونالد ترامب أن يبني عمارة جديدة بحجارة قديمة، وفي اعتقادي أنه إعلان من طرف واحد، لم يُسأل أركانه فيه، ولم يُستشر أعضاؤه المذكورون في الخطاب، بل هو يهدف للضغط على هذه الدول من أجل إحراجها في عملية ابتزاز مكشوفة، مستفيداً مما تعانيه من أزمات ومشاكل أمنية وربما احتياجات اقتصادية.
لقد خرجت مصر من الإعلان السابق سنة 2016، ولمّا يجفَّ حبر هذا الإعلان، فلماذا المحاولة الآن، وماذا تغير في المعطى المصري كي تقبل مصر بدور الغطاء الإقليمي له؟
وإذا اقتصر الأمر على الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي الدائرة في فلك السياسة الأميركية فليس في الأمر ما يستحق التوقف عنده.
وبالرغم من حالة التمزق التي تعيشها أمتنا، فإن قواها الحية اليوم تعبر بأرقى حالات التعبير، عن توازن في الردع مع العدو الصهيوني، مستفيدة ومساهِمة في إسقاط الأحادية التي كانت تهيمن على مصائر الشعوب، ومستفيدة من توازن دولي جديد، سياسي وعسكري واقتصادي، كان للسياسة الأميركية المستعدية لحقوق الدول وشعوبها، دورٌ في إنضاجه وبلورته.
عن موقع اتليبورو