أوروبا في اضطراب.. والمتطرفون يشكلون تحالفات جديدة
ترجمة وإعداد: علاء العطار
قد يكون الأمر مجرد مصادفة، أو ربما كان قرار عرضِ أشهر أعمال إدفارد مونك، “الصرخة”، في المتحف البريطاني في نيسان القادم، بعد خروج بريطانيا المقرر من الاتحاد الأوروبي في 29 آذار القادم، جزءاً من خطة ماكرة لتخريبٍ متعمد. في كلتا الحالتين، يبدو تصوير الرسام النرويجي الشهير للألم المبرح الناجم عن القلق الشديد، والاضطراب العقلي، والأسى، والشعور بالوحدة والعزلة ملائماً للعصر بشكل خاص.
مع أن بريطانيا تتحرك نحو انهيار عصبي محتمل، إلا أن أوروبا المضطربة ليست في وضع أفضل، فالتوترات حيال آفاق الاتحاد الأوروبي وتماسكه تتزايد، مع توجه التركيز إلى الانتخابات البرلمانية الأوروبية في 23- 26 أيار القادم، حيث يتحول حالياً هذا التنافس الذي عادة ما يكون تنافساً بليداً وغير ملهم، إلى معترك قد يدور الاقتتال فيه حول الاتجاه الذي ستسلكه أوروبا، ورغم أن الانتخابات الأخيرة في عام 2014 شهدت أدنى نسبة إقبال على الإطلاق، إلا أن عام 2019 قد يكون مختلفاً تماماً.
وهناك معسكران متنافسان آخذان في الظهور، أحدهما محكوم عليه بالهزيمة، على أحد الجانبين تقف فرنسا وألمانيا، المحرك الأسطوري الذي كان يدير الاتحاد الأوروبي منذ قيامه، حيث يأمل رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، أن يُؤيد الناخبون رؤيته حول أوروبا أكثر تكاملاً من النواحي الاقتصادية والمالية والسياسية، وتتوخى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الحذر بشأن التفاصيل، ولكنها تدعم توجه ماكرون.
كلاهما يريد اتحاداً أوروبياً بإمكانه أن يُدافع بشكل أفضل عن مصالحه وقيمه في عالم هزّه تسخيف دونالد ترامب لمعتقداته التقليدية، وفي خطابها في العام الجديد، قالت ميركل: إن ألمانيا ستتحمل مسؤولية أكبر في السعي بحثاً عن “حلول عالمية” للمشكلات العالمية، كالإرهاب والهجرة وتغير المناخ، واعتبرت تصريحاتها تحدّياً لأجندة ترامب القومية “أمريكا أولاً” وللتقدم الشعبوي اليميني في الفترة الممتدة من 2016 إلى 2018 في أجزاء واسعة من ألمانيا وعبر أوروبا.
وستوقع ميركل وماكرون على تحديث رمزي لمعاهدة الصداقة الفرنسية الألمانية التي أُبرمت عام 1963 في مدينة آخن الحدودية، وهما يهدفان إلى تعجيل التعاون في مجالات الدفاع والأمن والدبلوماسية، ولا سيما في مجلس الأمن، حيث تبدأ ألمانيا فترة عمل تمتد لعامين، رسالتهما واضحة: أياً كان ما قد يقوله ترامب، فإن تعددية الأطراف والنظام العالمي التعاوني ما بعد الحرب لا يزالان حيّين يُرزقان، ومن الآن فصاعداً سيكون قلب أوروبا منزلهما الأيديولوجي.
تكتنف هذه المقاربة مشكلات جمة، فبادئ ذي بدء، الكثير مما سيُتّفق عليه في آخن سيكون محاولة لاسترضاء ماكرون، الذي لا تجد أفكاره الطموحة بشأن الميزانية والتكامل في منطقة اليورو دعماً كبيراً في برلين، ثم هناك الضعف المتزايد الذي يعانيه الزعيمان، وبعد سلسلة من الهزائم في الانتخابات، قالت ميركل: إنها ستستقيل في موعد لن يتجاوز عام 2021، كما أن ماكرون محاصر في الداخل بمظاهرات السترات الصفراء، التي أصبح اليمين المتطرف يديرها بشكل متزايد، والتي تعارض كل شيء من غلاء المعيشة إلى استبداده.
ويرى المراقبون في الاتحاد الأوروبي أن مناورة آخن ما هي إلا إعادة صياغة واسعة للأهداف الغامضة التي تعكس برغم ذلك الواقع الجيوسياسي المنبعث، ذلك أنه مع خروج بريطانيا من المزيج الأوروبي، فإن باريس وبرلين تُعيدان تأسيس الهيمنة الأوروبية غير الخاضعة فعلياً التي كانت تتمتع بها أوروبا قبل تدخُّل إدوارد هيث ومارغريت تاتشر بعد عام 1973، خلاصة القول، عاد المحور الفرنسي الألماني المسيطر، أو ربما عاد، وهو ما يُعدّ أخباراً سيئة لحلفاء المملكة المتحدة في أوروبا الوسطى والشرقية.
والمشكلة الأكثر جوهرية في هذه المكائد هي الناخبون الأوروبيون العنيدون، ما يُعيد إلى ذاكرتنا انتخابات أيار، كما شهد الأسبوع الماضي أكثر التصريحات جرأة عن تصميم أحزاب أوروبا المتباينة، التي يغلب عليها الطابع الشعبوي اليميني والقومي والمعادي للمهاجرين والكاره للأجانب، على الاتحاد معاً لكسر قبضة بروكسل الصلبة الأنانية.
وخلال حديثه في وارسو بعد اجتماعه مع كبار أعضاء الحكومة المحافظة في بولندا، دعا ماتيو سالفيني، نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم الرابطة اليمينية المتطرفة، إلى قيام تحالف قاري يحمل شعار “نهضة القيم الأوروبية” المعادية للأجانب، وشعار وضع حد لأوروبا التي “يديرها البيروقراطيون”، أي المفوضية الأوروبية وفرنسا وألمانيا وبلدان البنلوكس.
حصل سالفيني بسرعة على ترحيب ودعم من فيكتور أوربان، أكبر مشكّك بالاتحاد الأوروبي والمعادي للمهاجرين والكاره للمسلمين، وسبق أن اعتبر رئيس وزراء هنغاريا استطلاعات أيار على أنها منافسة شخصية بينه وبين ماكرون، وجبهات المعركة الآن آخذة في التوسع والرهانات آخذة في الارتفاع، والجائزة هي كامل أوروبا، ويبدو للوهلة الأولى أن توقع سالفيني الموقن عن حدوث “ربيع أوروبي” جديد مثيراً للشؤم ومبالغاً فيه، ويدّعي أوربان بأن مسألة الهجرة هي القضية الفارقة في السياسة الأوروبية، وفي خارطة الطريق التي رسمها ليحكم اليمين قبضته على الاتحاد الأوروبي، ويبدو هذا الادعاء وكأنه كوابيس يستحيل وقوعها، لكن هل هذا كل ما في الأمر؟
هناك نظرية، تجذب أنظار التقدميين والليبراليين لأسباب واضحة، ومفادها أن الشعوبية الأورو-أطلسية قد وصلت إلى ذروتها، وأن ترامب قد بالغ في توقعاته بشأن الجدار مع المكسيك، ولم يعد بالإمكان اللعب بورقة أزمة اللاجئين السوريين فقد بليت، وأن الغضب والعزلة اللذان أشعلا نيران البريكسيت وعززا قوة اليمين المتطرف في السويد وإيطاليا وإسبانيا، قد تبددا.
واصلوا أحلامكم، فقد تحول ميزان القوى السياسية في أوروبا من التوسط إلى أقصى التطرف، وربما بشكل دائم، ولصالح أقصى اليمين بشكل رئيسي، ويساند حوالي ناخب من كل ستة ناخبين في أوروبا الغربية، الآن الأحزاب الشعوبية بشكل منتظم، والفوارق الاقتصادية والتباين في الثروة تزداد اتساعاً أكثر من أي وقت مضى، والهجرة في جميع أنحاء أوروبا، سواء أكانت مشكلة محلية أم لا، أشبه بعبوة ناسفة على قارعة الطريق، جاهزة للانفجار في أي وقت ودون سابق إنذار.
سواء اتفقت مع أوربان أم لا، فقد أمست الهجرة مشكلة متنوعة الاحتمالات وكأنها حصان طروادة، وهي مشكلة تشمل مخاوف حيال الهوية والموارد المحدودة والمجتمع المحلي والثقافة والسيادة، وتجسد الفشل المتصوَّر في فهم النخب القائمة “للمشكلة”، ناهيك عن حلها، إنها سلاح انتخابي فعال.
عندما يتحدث سالفيني بأن أوروبا التي “أُعيدَ تشغيلها” قد قامت على أساس “دم جديد، وقوة جديدة، وطاقة جديدة”، فهناك أصداء بلاغية واضحة لحقبة أخرى تتسم بانعدام الاستقرار، وبـ ديماغوجيين مخابيل آخرين، وبأزمة في القيادة والشرعية في أوروبا، وحسب طريقة سير الأمور، ربما ينبغي عليهم أن يتضرعوا لله في بروكسل ليتكرر في أيار سجل الإقبال المتدني للناخبين لعام 2014، أو ربما علينا جميعاً أن نضع أيدينا على آذاننا ونصرخ بأعلى صوتنا.