نموذج في التكافل الاجتماعي رضيمة اللوا.. تجربة مميزة في تربية الثروة الحيوانية واستثمار الخيارات المتاحة
ليست المرة الأولى التي نزور فيها قرية رضيمة اللوا، فالزائر لتلك القرية يتوق دوماً للرجوع إليها لما تحتضنه من إرث اجتماعي وتاريخي وفكري يجعل زيارة واحدة لها لا تكفي لترضي شغف الزائر لمعرفة واقع السكان فيها، وقد يكون لموقع القرية أثر في إعطائها الخصوصية، فهي تتوسط طريق دمشق السويداء، ومنطقة اللجاة، وتستمد منهما بعضاً من الخصوصية، فالشريان الحيوي الذي يمثّله الطريق يشكّل نبض الحياة فيها، أما من اللجاة وقساوتها فاستمد السكان حب الحياة، والصلابة، والعنفوان، حيث نسجت واقعاً اجتماعياً قل نظيره من التماسك والتكافل.
صناديق تشاركية
التجربة المميزة التي تشهدها القرية في مجال تربية الثروة الحيوانية، وإنتاج الألبان والأجبان، وما تشكّله من عامل مهم في دعم الاستقرار ضمن الريف، وتأمين مصدر دخل لعدد كبير من الأسر لمواجهة أعباء الحياة ومتطلباتها، كانت عنوان زيارتنا هذه المرة.
ولا شك أن طول المسافة التي تبعدها عن مدينة السويداء، والتي تصل إلى 38 كم، سمح لمدير فرع مشروع تطوير الثروة الحيوانية المهندس باسل رشيد بشرح آلية عمل صناديق التمويل التي يشرف عليها الفرع، والتي تشكّل حالة متقدمة من العمل التشاركي بين الفرع والمجتمع المحلي، إذ تعتمد على مساهمات المشاركين بالصندوق كما يقول رشيد، حيث يتم شراء أسهم بقيمة ألف ليرة لكل سهم، ويحق للمساهم أكثر من سهم، وبموازاة قيمة المساهمات المحلية يضع المشروع 8 أضعاف تلك المساهمات، ويؤسس الصندوق، والأهم في فكرة التمويل كما يقول رشيد هو تقديم القروض العينية للمساهمين، أي أنه يتم شراء المطلوب وتقديمه للمساهم، وطبعاً تنحصر عمليات منح القروض بالثروة الحيوانية كشراء الأبقار، والأغنام، والدواجن، والأعلاف، وتصنيع الألبان والأجبان، بفوائد مقسمة حسب طريقة التسديد، سواء كانت شهرية أو نصف سنوية، أو دفعة كاملة، حيث تصل الفوائد في هذه الحالة إلى 8,4%، وتصل مدة السداد إلى 18 شهراً، وهذه الأرباح تعود للصندوق نفسه.
المهندسة آمال العطواني، رئيس دائرة التمويل في الفرع، التي كانت برفقتنا، وضحت آلية منح القروض التي تعتمد على شرطين أساسيين وهما: المساهمة في الصندوق، والسمعة الائتمانية، حيث تقوم الدائرة بالتواصل مع المرشّح من قبل اللجنة المحلية لإجراء دراسة الوضع الراهن لطالب القرض كالدخل، وطبيعة السكن بهدف معرفة الجدوى الاقتصادية للمشروع عبر المداخلات، والمخرجات، والبيئة التي يوفرها المستثمر، وبالتالي إجراء تقاطعات مع حالة المقترض، والهدف بطبيعة الحال معرفة مدى إمكانية نجاح المشروع، وتضيف العطواني بأن نسبة التحصيل التي تصل إلى 100% تعتبر مؤشراً واضحاً لنجاح التجربة التي تعتمد على ركنين أساسيين هما: الحالة التشاركية، وتطور حالة الوعي عند المساهمين.
ترابط وتكافل
انعطافة على اليسار على أحد الممرات التي تم فتحها على اوتستراد دمشق السويداء، وعلى بعد مسافة 50 متراً، تضع الزائر وسط القرية، وجولة بسيطة في شوارعها كفيلة بكشف الواقع الاقتصادي لأبنائها الذي يعتمد بشكل أساسي على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، طبعاً الموقع الجغرافي لها ووقوعها ضمن منطقة الاستقرار الثالثة، أي أن نسبة أمطارها لا تتجاوز 150 ملم، جعلا الخيارات الزراعية محدودة أمام السكان، حيث يعتمدون على المحاصيل الحقلية بشكل أساسي كالشعير، والقمح، والتي تزرع بعلاً، واللافت أيضاً في جولتنا حالة الاستثمار المثلى لكل شبر من أرض القرية التي لا تزيد مساحتها الإجمالية عن 5 آلاف هكتار، حيث تجد الحدائق المنزلية مزينة بأشجار الزيتون، ومعرشات العنب، إضافة إلى اللوزيات المنتشرة بكثافة بين البيوت بشكل يدل بوضوح على أن حالة اكتفاء ذاتي تحققت دون الرجوع إلى سكان القرية وسؤالهم عن ذلك.
لجنة الصندوق كانت حريصة على التواجد في بيت رئيس اللجنة قبل وصولنا، الحالة الحميمية تبدو واضحة من طبيعة الاستقبال التي تجيب عن الكثير من التساؤلات التي تدور في ذهن الزائر لأول مرة، واللجنة وضعت نصب أعينها منذ مباشرة عملها عام 2013 تقديم ما أمكن لرفع مستوى المجتمع المعاشي.
فرحان الخطيب، الرجل السبعيني، كان أول المتحدثين، وحرص على تدوين ما أراد قوله عبر ورقة خطفها من جيبه بطريقة الواثق والراضي عما تم تحقيقه من قبل لجنة الصندوق التي وصفها بأنها فريق عمل واحد، الجد والعمل منهجها، والتفاهم والمثابرة رائدها، والوصول إلى ما تصبو إليه غايتها، ومن خلال تلك الرؤية تم تنفيذ العديد من النشاطات والفعاليات التي تصب في خدمة المقترضين وتطوير مهاراتهم، فكانت دورات تصنيع الحليب بالطرق الحديثة، والأيام الحقلية، وإنشاء شبكة لمربي الأغنام في القرية لتقديم مساعدات من أدوية، ولقاحات مجانية، وأيام عملية حول الاستفادة من بقايا الأشجار باستخدام الفرامة الخاصة.
نجاح متبادل
نجاح صندوق تطوير الثروة الحيوانية في القرية انعكس إيجابياً على واقع تلك الثروة فيها التي تشكّل مصدر رزق أساسياً لسكانها، حيث لجأ أهلها لتربية الثروة الحيوانية في ظل قلة فرص العمل، وكونها منطقة تصنف من المناطق الجافة، وهذا ما ساهم بنجاح الصندوق، تلك العلاقة التبادلية في نجاح التجربتين جعلت الصندوق يقدم أكثر من 15 مليون ليرة بشكل قروض عينية لنحو 209 مساهمين، والذين يصل عددهم إلى 268 مساهماً، أما قيمة المساهمات فهي 355 ألفاً، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد الأسر الموجودة في القرية، والذي لا يزيد عن 350 أسرة، نجد أن نحو 75% من الأسر مساهمة بالصندوق، وهذا يعكس حالة التعاون والتآلف كما يقول بسام عبيد، وهو أحد أعضاء اللجنة الذي أكد على حالة التوازن التي حققها الصندوق بين أبناء المجتمع، ويذكر عبيد أنه إضافة لما تملكه القرية من ثروة حيوانية، هناك إنتاج يدخل إليها يومياً نحو 5 أطنان من الحليب لتصنيعه عبر وحدات التصنيع الموجودة.
قيمة مضافة
نحو 2500 رأس غنم وماعز، وأكثر من 200 رأس بقر حلوب توجد في القرية، وأكثر من 45 وحدة لتصنيع الألبان والأجبان يستجر أصحابها نحو 5 أطنان من الحليب يومياً من القرية والقرى المجاورة، خاصة في موسم حلابة الأغنام، وهو ما أهّلها لتنفيذ 12 مخمراً لإنتاج الغاز الحيوي في فترات سابقة مازالت قيد التشغيل.
أم معتز التي تمارس مهنة تصنيع الحليب منذ 22 سنة واحدة من عشرات النساء اللواتي أخذن من تصنيع الألبان والأجبان مهنة لهن، وتسويق الإنتاج في القرى المجاورة اختصرته أم معتز بكلمة “مستورة”، وقد تكون “سترة الحال” في ظل الواقع المعيشي الصعب الذي تعاني منه الأسر السورية طموحاً ليس بالسهل المنال إلا عند أبناء الرضيمة الذين أسسوا أساساً متيناً لعملية الاكتفاء الذاتي منذ عشرات السنين لمواجهة مثل هذا النوع من الظروف.
مطالب ضرورية
طبعاً لاستمرار نجاح التجربة لابد من وجود بعض المطالب اختصرها جميل غرز الدين، محاسب الصندوق، بضرورة إعطاء مدة سماح لتسديد القروض، حيث إن بعض القروض لا تكون منتجة لعدة أشهر، وكذلك إطالة مدة التسديد لتتمكن اللجنة المحلية من رفع سقف القرض من 100 ألف إلى 200 ألف، والسماح بزراعة النباتات العلفية ولو بمساحات قليلة على بئر المكرمة لتأمين العليقة الخضراء، وزيادة الهواضم الحيوية في القرية، وزيادة المقنن العلفي، والأهم هو تنفيذ معمل الألبان والأجبان الذي وعد به أبناء القرية.
حالة متطورة
حالة التماسك الاجتماعي تبدو واضحة في القرية عبر نجاح كل الفعاليات فيها، والأهم هو امتلاكها لأكبر عدد من الشهادات الجامعية وفوق الجامعية نسبياً على مستوى المحافظة، وقد يكون على مستوى القطر، والتي تصل إلى 400 شهادة، ويعتز أبناء القرية بأن تلك الشهادات يعود الفضل فيها إلى تلك الثروة الحيوانية التي تشكّل مصدر الدخل الأساسي للمعيشة والتعليم، وهنا لابد من الاستفادة من هذه الحالة المتطورة اجتماعياً، وتعليمياً، واستهدافها ببرامج تنموية واقتصادية، وقد يكون إحداث معمل لتصنيع الألبان والأجبان في مقدمة الأولويات.
رفعت الديك