“سيمون بوليفار” المُحَارِب في وجدانه أيضا
عندما كتب الأديب العالمي الراحل “غابرييل غارسيا ماركيز -1927-2014 روايته البديعة “ليس للجنرال من يكاتبه”، وهي رواية كُتبت بين عامي 1956-1957 وتم نشرها لأول مرة عام 1961، كانت روايته برمتها ذاهبة نحو تقديم عظمة الجنرال “سيمون بوليفار” الذي حلت ذكرى وفاته منذ مدة قريبة، وهي فرصة لاستحضار شخصيته من خلال الأدب اللاتيني، الذي يجله، ويعتبره موحد أمريكا اللاتينية ومحررها من الاستعمار الإسباني؛ قائد ثوري وسياسي فنزويلي كبير، ظل يحارب وبشرف لا يصدق حتى آخر أنفاسه، إن لم يكن بالسلاح فبكرامته التي لم يتخل عنها ولو للحظة واحدة رغم كل الخطوب التي مدت يدها لتباطحه، مباطحة ندية بين قوة النفس وسموها، وبين القدر بأفعاله التي لا ترحم، فهو لا ينفك يتذكر وهو يعمل القهوة في الصباح له ولزوجته، كما جاء في الرواية الآنفة الذكر، دون أن يكون في علبة القهوة ما يكفي إلا لشخص واحد، لا ينفك يتذكر صناديق الذهب التي حملها حتى أوصلها للميدان، وفنجان القهوة الوحيد، قدمه لزوجته المريضة، كاذبا عليها بأنه سبقها وشرب.
يصف النقاد عموما هذه الرواية من روائع الأدب والقصص القصيرة التي كتبها ماركيز، تلك التي يبقى فيها هذا الجنرال لديه ما يقاتل لأجله ويحارب حتى النفس الأخير، فذكرى ولديه تحركه ليكون ثائرا أبدا، طالما أن هناك أجيالا ستأتيها الحرب، كما الحرب التي خاضها، وها هو الواقع يعترف بذلك التنبؤ الأدبي الخطير-فنزويلا اليوم وما يحدث فيها من قًبل الكاوبوي الأرعن- كما أنها وفي خلاف للعديد من روايات ماركيز البديعة، يتخلى فيها “غابو” الاسم الذي اشتهر فيه الروائي- عن أسلوبه المعروف “الواقعية السحرية” ربما ليعطي للشخصية الرئيسية أي الجنرال كل الصورة، بمعنى إظهاره هو الأبرز فلا يطغى على حضوره في الرواية، تكنيك أدبي فيه ما فيه من الجمال والسحر، وهذا في عُرف الروائي الأهم في القرن العشرين، الذي يريد أن يرد له ولو بعضا من عظيم فِعاله، كمحارب لا يهدأ للعدو الإسباني. سيمون بوليفار الذي حارب الأسبان فوق مختلف أراضي أمريكا اللاتينية، في جبالها وبين غاباتها الكثيفة، في مدنها وقراها، قام بتوحيد العديد من تلك الدول، لتنضم إلى ركب حربه التحريرية، ويشهد له التاريخ، أنه حقق وحدة لم تحصل سابقا في تلك البلاد، فكان لا بد لصاحب القلم الروائي الأهم والذي هو من مواطنيه، أن يكتب عنه رواية تمجده أبدا.
يتفق أغلب سكان تلك القارة الوحشية في تاريخ حروبها الداخلية، أن شخصية “بوليفار” هي الأهم في تاريخها ويصفوه حسب الرواية بالبطل، وكذلك في الواقع، وهي –أي شخصيته وعوالمه الجوانية- من حققت الحلم بوقف الحرب الأهلية المستعرة بين العديد من دول أمريكا اللاتينية، والتي هي في معظمها بدعم أمريكي، وبعد إيقافها العمل على توحيدها في جبهة واحدة ضد العدو الخارجي، ويعتبره أيضا النقاد العالميون بلائحة أكثر الشخصيات المؤثرة في التاريخ، بكونه (بطل أمريكا اللاتينية الأول، وشخصية مؤثرة في تاريخ العالم، على خلفية إرث سياسي جلي في مختلف البلدان الأمريكية اللاتينية، والتي تحولت في بعض الأحيان إلى محافل قومية بالبلدان المذكورة)، هذا رأي متفق عليه أدبيا وشعبيا، وهذا ما عملت الرواية على إظهاره، وهو بكامل قوته النفسية، حتى والبرد والفقر ينهشان لحمه، وأُقيمت تخليدا لذكراه ولإرثه السياسي الثقيل، العديد من التماثيل والنصب التذكارية، ووضعت في أهم ساحات تلك الدول، حتى أنه صار أيقونة عالمية، عدا عن كونه أيقونة يعلقها الرجال والنساء في رقابهم، كصورة محفورة على الخشب أو المعدن.
سيمون بوليفار، ليس اسما عاديا يمرّ بوجدان الشعب اللاتيني، فكثر هم القادة الذين تمثلوا نهجه وخطاه في الدفاع عن البلاد بأجمعها، وكان منهم “هوغو شافيز”-1954-2013، الجنرال الذي مات أيضا ولم يقبل الهيمنة الغربية على مقدرات بلاده، وهو في الحقيقة، وكما يروى في بعض الروايات، أنه جده، وربما لأن أهل أمريكا اللاتينية، يعتبرون بعضهم أقرباء بعض، فلذلك أشار هوغو وماركيز أيضا، في لقاء جمعه فيه، بعد أجيال من ذكرى بوليفار، بأن أعظم شخص عرفه بالتاريخ، هو سيمون بوليفار، موحد ومحرر دول أمريكا اللاتينية، وهو جده، الرجل الذي كان كل ذهب المنطقة عند قدميه، لكنه صحا يوما، ولم يجد في بيته ما يكفي من القهوة له ولزوجته، لكنه لم يتذمر من ذلك بل سخر.
تمّام علي بركات