فساد ما قبل الفساد..
مكافحة الفاسدين لا تعني مطلقاً المكافحة الناجعة للفساد.. فقد التبس علينا أو على معظمنا مفهوم الفساد وتجلياته طويلاً.. و اختصرنا الظاهرة بما ظهر منها جليّاً في مفاصل المؤسسات التنفيذيّة.. أي بالمناصب والأشخاص.. رغم الامتداد واسع الطيف لها كممارسة مجتمعيّة، بدءاً من الحالة الشعبيّة والشارع، وحتى هيئات المجتمع الأهلي، مروراً بهياكل أخرى مختلفة، وصولاً إلى المنظومة التنفيذيّة.. فنحن كـ سوانا في هذا العالم ” لسنا مجتمع قدّيسين”، وعلينا أن نتقبّل الحقائق كما هي، ونعترف لأن الاعتراف أول شرط لازم لحلّ أي مشكلة كبرت أم صغرت.
بكل الأحوال تظهر الخلاصات السوداء للممارسات المشبوهة في الأروقة التنفيذيّة بوضوح، لأنها المعنيّة بالإدارة والأموال والإنفاق والإيراد وكل الأرقام التي تلخّص أوجه النشاط العام في الدولة، ففي المسألة دفاتر حسابات وأوامر صرف ونقود تتكفّل دوماً بجذب الأنظار إليها.. ولنلاحظ أن أكثر المداولات التي تشير إلى خلل ما تحت عنوان الفساد، تذهب مباشرةً باتجاه لإشارة إلى “تكاليف نقديّة” وكسب غير مشروع، رغم أنها شكل من أشكال الفساد وليس كلّه.
الآن لا يبدو أن ثمة خلافاً على المقدّمات، بل المهم أكثر هو النتائج، وفق هذا المنهج يمكن استنتاج اتجاهات التحرّك الهادئ، الجاري بلا ضجيج في مقصورة الإدارة التنفيذيّة، وربما علينا أن نقتنع بأن مكافحة فاسد لا تعني مطلقاً مكافحة الفساد بعموميته، بل المسألة اتخذت بعداً أكثر تنظيماً وتكاملاً، لتكون البداية الحقيقيّة من إعادة بناء التشريعات، فهنا يكمن الجزء الأكبر من الأسباب، وفي السياق ستكون حيثيّة الفاسد كجزء من التعاطي “الجراحي” مع الفساد كمفهوم وممارسة باتا ذات وقع قاسٍ على النفوس والموارد معاً.
ولعلّ المعالجات الجارية على نارٍ هادئة، تشي بأننا سنكون لأوّل مرّة في تاريخ إعلاننا الحرب على الظاهرة، وهو إعلان مزمن، بانتظار نتائج مضمونة، تظهر تباعاً في حنايا الوزارات ومؤسساتها.. لكن رغم تفاؤلنا تبقى الهواجس قائمة من اجتزاء المعالجات، بما أننا على قناعة بأن الفساد ظاهرة مجتمعية وليست مجرد وقائع متفرّقة في المفاصل التنفيذيّة، ليكون السؤال الصعب والإشكالي الذي يستفسر عن الأجزاء المتبقّية من هذه المهمة المعقّدة، خصوصاً وأن جميعنا يعلم أنه لا يجوز ترك أية بؤرة لإنتاج الظاهرة في المجتمع؟؟
هنا نجد أنفسنا نتنقّل على ضفاف عديدة في قوام المشهد العام لنا كدولة.. بدءاً من الأسرة والتنشئة الأولى للمزاج وصياغة منظومة الأعراف، التي علينا الاعتراف بأنها ما زالت أقوى من القوانين في بيئتنا الاجتماعية، أو على الأقل في مساحات واسعة منها، وبالتالي تشظّي الأعراف ” غير الحكيمة” في مفاصل الحياة العامة من الشارع إلى النادي والمقهى إلى شبكة علاقات العمل، لا سيما في أوساط قطاع الأعمال، حيث علينا الوقوف والنظر للتحرّي عن ” المفسد” كطرفٍ آخر في معادلة الفساد، بما أن الفرضية الموضوعيّة تؤكّد أن لا فاسد بلا مُفسد.. ففي آخر هذه السلسلة الطويلة تأتي السلطة التنفيذيّة، التي كانت في دائرة الضوء لأنها وعاء احتضان كل الخلاصات المنتجة عبر مؤسسات المجتمع الأهلي، وليس المؤسسات الرسمية.
كي ننجح فعلاً في المواجهة الجادّة مع الفساد، نبدو اليوم بأمسّ الحاجة إلى بلورة منظومة عمل مجتمعي تشاركي متكاملة، يكون لقادة الرأي بصماتهم الراسخة فيها، ونكرر.. قادة الرأي على اختلاف ماهياتهم، فلهؤلاء الأثر الأكبر لأنهم ” رعاة العرف” القادرون على جعل الفاسد مرفوضاً بعد أن بات مُظرّفاً.
ناظم عيد