ألمانيا 2019 : أحلام قديمة متجددة
د. مازن المغربي
مع بداية هذا العام دشنت جمهورية ألمانيا الاتحادية مرحلة جديدة على صعيد سياستها الخارجية من خلال احتلالها لمقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي. فبالنسبة لألمانيا ثمة شعور بالغبن تجاه هيئات المنظمة الدولية التي أقيمت عقب الحرب العالمية الثانية، وعكست نتائج تلك المجزرة المروعة التي لم يخرج منها منتصراً سوى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الأمر الذي أتاح للعملاقين فرصة التوافق على إدارة شؤون العالم حيث تم تشكيل المنظمة الدولية على أساس ميزان القوى القائم وتم ابتداع فكرة وجود خمسة أعضاء دائمين في مجلس الأمن يمتلكون حق النقض للتمويه على واقع أن عالم ما بعد الحرب كان فعلياً تحت قيادة واشنطن وموسكو مع وجود أرجحية لصالح الولايات المتحدة التي قدمت للاتحاد السوفيتي معونات ضخمة ضمن إطار قانون أقر في الحادي عشر من آذار 1941 بهدف حشد الإمكانيات لهزيمة اليابان وألمانيا وإيطاليا من خلال تقديم معونات عسكرية وغذائية لبريطانيا وفرنسا الحرة والصين والاتحاد السوفيتي .
تم تحديد الأعضاء الخمسة دائمي العضوية ومنح مقعد الصين إلى ممثل حكومة الصين الوطنية في حين ظلت حكومة الصين الشعبية خارج المنظمة الدولية . كان في الأمر مفارقة كبيرة حيث كانت بكين تحكم أكثر من 90% من الشعب الصيني وتفرض سيطرتها على بلاد ضخمة ومع ذلك منحت تايوان مقعداً دائماً في مجلس الأمن واستمر هذا الوضع من عام 1950 وحتى عام 1971 عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار قبول حكومة الصين الشعبية في المنظمة الدولية الأمر الذي أدى إلى انسحاب جمهورية الصين الوطنية من المنظمة.
إذن تدخل ألمانيا مجلس الأمن ضمن سياق اندفاع الحكومة الألمانية لتعزيز مكانتها على المسرح الدولي وفق تعبير المستشارة أنجيلا ميركل التي قالت في كلمة وداع عام 2018 أن ألمانيا الاتحادية ستسعى خلال وجودها في مجلس الأمن لإيجاد حلول شاملة لمشاكل العالم وأنها ستزيد من تقديم المعونات الإنسانية وستهتم بقضايا الدفاع من خلال حث الاتحاد الأوروبي على تبني مواقف قوية. وتراهن ألمانيا على التحالف القائم فعلياً بين برلين وباريس بهدف إدخال تعديلات هامة على الاتحاد الأوروبي بما في ذلك مشروع بناء جيش أوروبي . صحيح أن الحكومة الألمانية تحاول تقديم نشاطها على صعيد السياسة الخارجية ضمن إطار تقديم المعونات الإنسانية والمساعدات التقنية والمشورة الإدارية لكن هذا لا يمكن أن يغير واقع أن جوهر موقف الحكومة الألمانية يتمثل في عسكرة سياستها الخارجية وهو الأمر الذي يعكسه بوضوح مشروع بناء قوات تدخل أوروبية يمنح برلين حيزاً من الاستقلالية تجاه نزعة واشنطن لفرض منظورها الخاص على حلفائها.
وضمن هذا السياق يمكن إدراج مبادرة التدخل الأوروبية التي أطلقت في 25 حزيران 2018 عندما وقع وزراء دفاع تسعة بلدان أوروبية رسالة إعلان نوايا بهدف بناء ثقافة استراتيجية أوروبية مشتركة وتمهيد الميدان لعمليات تدخل في المستقبل مع ترك الباب مفتوحا أمام دول أوروبية أخرى عندما تمتلك الشروط التي أقرتها مجموعة النواة الصلبة المكونة من ألمانيا ، بلجيكا، الدانمارك ، اسبانيا، استونيا، فرنسا، هولندا، البرتغال ، والمملكة المتحدة.
نجحت ألمانيا في التحول إلى قوة اقتصادية عالمية وهي تطمح لأن يكون لها دور سياسي أكثر فاعليةً على مستوى العالم ، وترى في الاتحاد الأوروبي أداة مناسبة لتعزيز موقعها تجاه القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة و الصين وروسيا. لكن يبدو أن هذا التوجه لاستثمار الاتحاد الأوروبي يعاني من بعض المشاكل حيث يسود في العديد من البلدان الأوروبية شعور من عدم الرضا على إصرار برلين على زعامة الاتحاد وفرض رؤيتها على حكوماته خصوصاً فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية وسياسة الهجرة بل أن هناك من رأوا أن وضع الرئيس الفرنسي ماكرون قد تدهور نتيجة اندفاعه لتطبيق التوصيات الاقتصادية الألمانية الأمر الذي فجر حملة احتجاج غير مسبوقة ضده. أدى الوضع الحالي لعملية استرجاع لما عرف تاريخياً بالمسألة الألمانية التي طرحت عام 1871 إثر توحيد الإمارات الألمانية تحت زعامة بروسيا لتكون ألمانيا آخر الواصلين إلى نادي الدول القومية في أوروبا. و لم يكن هناك مفر من مواجهة حقيقة أن أي تعاظم للدور الألماني كان يحمل في طياته خطر المجابهة مع المنافسين. وضمن هذا السياق خاضت ألمانيا حربها الأولى ضد فرنسا وألحقت بها هزيمة وتمكنت القوات الألمانية من دخول باريس في 28 كانون الأول 1871 ، وتكرر الأمر عام 1914 لكن الحرب انتهت لغير مصلحة ألمانيا نتيجة تدخل الولايات المتحدة ضدها . ثم تكرر السيناريو من جديد إثر قيام ألمانيا بشن حرب فرنسا عام 1940 عندما اندفعت القوات الألمانية واحتلت باريس لكن دخول الولايات المتحدة الحرب قلب الموازين ضد ألمانيا التي دمرت وقسمت وخضعت للاحتلال. وفي أعقاب الحرب تمكنت ألمانيا الاتحادية من النهوض والتعافي بسرعة وطوال عقود كانت روح مناهضة الحرب هي السائدة في ألمانيا التي انتهجت سياسة خارجية توافقية توجت بالانفتاح على جمهورية ألمانيا الشرقية .
الهواجس الألمانية
وأما اليوم ونحن نعيش في أجواء محمومة تشبه إلى حد بعيد ما كان سائداً في أوروبا عام 1914 لجهة انبعاث الروح القومية وتحول الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى قوى سياسية كبرى تمتلك قاعدة شعبية متينة على حساب تراجع دور الأحزاب اليسارية التقليدية وعلى حساب أحزاب يمين الوسط. تمنحنا هذه المراجعة التاريخية إمكانية لفهم الهواجس الألمانية حيث ترى برلين أن امتلاك اقتصاد عملاق لا يكفي وحده للعب دور سياسي عالمي بل يجب أن تكون هناك قوة عسكرية تدعم الطموحات السياسية ويكفي للدلالة على هذا المقارنة بين وزن جمهورية روسيا الاتحادية على المسرح العالمي مع وزن اليابان التي تمتلك اقتصادا متفوقا على نظيره الروسي. كما أن برلين تراهن على تحالفها مع باريس وترى أن التفاهم بين العاصمتين سيمنح الاتحاد الأوروبي قيادة حاسمة. وضمن هذا السياق سيتم في الثاني والعشرين من الشهر الجاري توقيع معاهدة تعاون بين فرنسا وألمانيا ووفق نص المادة الثامنة من الفصل الثاني لهذه المعاهدة تتعهد فرنسا بأن يكون حصول ألمانيا على مقعد دائم في مجلس الأمن من أولويات السياسة الخارجية الفرنسية.
إذن تقوم برلين باستخدام كل الوسائل الممكنة لتعزيز مكانتها الدولية وصار من الواضح جنوح حكومة ألمانيا الاتحادية نحو عسكرة سياستها الخارجية بحيث تتحول القوات المسلحة بمختلف أنواعها إلى أداة لحماية مصالح الطغمة المالية الألمانية .
وعند مراجعة الكتاب الأبيض للجيش الألماني الصادر عام 2016 نجد توجهات واضحة لتوسيع مهام القوات المسلحة ، بل أن الفقرة الثامنة منه حملت عنوان تجذير وضع الجيش ضمن المجتمع في حين نجد في البند السابع من الفقرة الثامنة تركيز واضح على مسألة تسليح الجيش وتزويده بأفضل التجهيزات المتطورة. وضمن هذا التوجه تم وضع مشاريع لتحديث معدات الجيش الألماني بما في ذلك الأسطول البحري و يبدو أن موضوع التنافس مع روسيا ما يزال حاضراً في أذهان قادة الجيش . فخلال المعرض المركزي الأخير للأسطول البحري صرح نائب الأميرال أندرياس كراوزيه بأنه أخيراً تم الاعتراف بدور القوات البحرية في الدفاع عن البلاد حيث أن الأسطول البحري الألماني تم إنشاؤه بالأساس لمواجهة الأسطول الروسي وفي هذا إشارة صريحة إلى العدو المفترض . وأضاف نائب الأميرال أن دور البحرية الألمانية في إطار الناتو لن يقتصر على منطقة بحرية واحدة بل يشمل حماية القوات التي يمكن أن تنتقل من شمال أمريكا باتجاه أوروبا عبر المحيط الأطلسي، ويمثل هذا استرجاع لتجربتي الحربين العالميتين عندما لعبت القوات والمعدات التي نقلت عبر الأطلسي دوراً هاماً في هزيمة ألمانيا لكن هذا الضابط رفيع المقام احتج متذمراً بأن حجم الأسطول الحالي هو الأصغر في تاريخ ألمانيا إذ يقتصر على ست وأربعين قطعة بحرية . وأشار إلى أن هناك نية لرفع حجم الأسطول بنسبة 130%. ومن المتوقع تجهيز الأسطول بفرقاطات متطورة بهدف مراقبة الطرق البحرية وبهدف دعم القوات البرية التي يتم إنزالها في بلاد أجنبية وبهذا نرى ابتعادا واضحا عن ما نص عليه دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية الذي حدد دور القوات المسلحة في الدفاع عن أراضي ألمانيا.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الفرقاطات الحديثة قادرة على تنفيذ مهام لمدة عامين متصلين دون الحاجة للعودة إلى الميناء الذي انطلقت منه. إذن وعلى الرغم من كل الحديث عن حل المشاكل بالطرق السلمية لكن الوقائع تشير إلى اندلاع سباق تسلح محموم كما لو أن المواجهة المباشرة صارت أمراً محتوماً وتعلمنا التجارب التاريخية أن تأجيج المشاعر القومية وتعظيم دور الجيش والحديث عن حتمية المواجهة وضرورة التسلح لا تقود إلا إلى نتيجة واحدة سبق للعالم أن ذاق ويلاتها لكن الفرق الآن هو أن أي مواجهة بين دول تمتلك أسلحة نووية تحمل في طياتها مخاطر دمار الكوكب بأسره بعد أن صارت معظم الخطط العسكرية مبنية على مبدأ الحرب الاستباقية لكن يبدو للأسف أن هناك من يريد تناسي دروس التاريخ وتكرار المراهنة على إمكانية الهيمنة على العالم بالقوة العسكرية.