“الجيل السادس” من الحروب!
طلال الزعبي
من الملاحظ أن وزارة الدفاع الأمريكية غضّت الطرف في الآونة الأخيرة عن تطوير الأسلحة التقليدية إلى حدّ ما بالقياس للشكل الذي كان عليه خلال القرن الماضي، وأصبحت تبحث عن نوع آخر من الأسلحة والحروب يختلف تماماً عن النمط الذي كان قائماً في السابق، والذي يعتمد على الاحتلال المباشر للأرض، ونشر القوات الأمريكية بأعداد كبيرة، وراحت تقلّص تدريجياً عدد القوات التي تستخدمها في الصراعات العسكرية حول العالم، وذلك أمر طبيعي بالقياس للنفقات العسكرية التي يمكن أن تثقل كاهل الموازنة الأمريكية، وهي مرتفعة أصلاً، ولذلك كثر الحديث منذ بداية القرن الحالي، وخاصة بعد احتلال العراق، عن أساليب جديدة لخوض الحروب والنزاعات دون أن يكون هناك وجود مباشر لهذه القوات على الأرض، فبدأت وزارة الدفاع الأمريكية باستبدال قواتها الموجودة في العراق وأفغانستان بعناصر تابعين لشركات أمنية مثل “بلاك ووتر” لتنفيذ المهمات القتالية بدلاً من استهلاك القوات الأمريكية في ذلك، ثم بدا لها أن هذا النمط من الحروب أيضاً مكلف ولا يمكن تغطيته بالاعتماد على هذه الشركات، فاتجهت السياسة الأمريكية نحو استخدام أسلوب آخر من الحروب اصطلح على تسميته “الجيل الخامس”، وهو الحرب بالوكالة، وذلك بالاعتماد على جماعات محلية في الدول المستهدفة يتم تجنيدها على أساس ديني أو طائفي أو عرقي تحت عناوين عريضة براقة، كنشر الديمقراطية، أو تقرير المصير، أو الحريات، أو حتى تشكيل “دولة الخلافة ” على نحو ما حدث في سورية والعراق، وغيرهما، وهذا الأمر تمت تجربته بشكل واضح فيما سمّي “الربيع العربي”، حيث اعتمدت الإدارة الأمريكية على جناحين متطرفين في المجتمعات العربية ظنّت أن بإمكانها الانتصار من خلالهما في حروبها على دول المنطقة، وهما جناح ما يسمى “الإخوان المسلمين” الذي تمثّله على الأرض قطر وتركيا، وله امتداد في بعض الحركات المحلية في المنطقة العربية، والجناح الآخر كان الجناح “الوهابي” الذي سُخّرت في تنميته أموال سعودية وخليجية على مدار نحو قرن من الزمن، استناداً إلى مخزون هائل من البترودولار الذي تملكه هذه المنطقة.
على هذا النحو، سار الجناحان في الدول العربية مدعومين من الدول الغربية التي تقف خلفهما في محاولة للحصول على السلطة وتغيير الحكومات في الدول العربية بما يتناسب مع السياسة الأصلية الهادفة لتدمير المجتمعات العربية من الداخل لإعادة تشكيلها من جديد بصورة تخدم هدفين أساسيين: أولهما وضع اليد الأمريكية نهائياً على هذه المنطقة، وثانيهما تحقيق الحلم الصهيوني بالوصول إلى ضفاف النهرين الكبيرين في المنطقة الفرات والنيل، ولذلك توزّع الدعم لهاتين المنظمتين بداية بين تركيا وقطر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، فكان يتم التعبير عن الحرب بين هذه الدول على الأرض بحرب بين “جبهة النصرة” المدعومة من قطر وتركيا، وجماعة “داعش” الوهابية المدعومة من السعودية والإمارات، وعندما تمكّنت “النصرة” من البقاء على حساب “داعش” في المنطقة، تم تظهير الخلاف الحقيقي بين هذه الدول الذي يُعبّر عنه بحصار قطر، وهو في حقيقته خلاف نشب على أساس خسارة السعودية أدواتها في سورية والعراق لحساب تعويم “النصرة” التي تدعمها تركيا وقطر بقوة.
وبالنتيجة حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على هدفها المرحلي المنشود بإحداث انشقاق عمودي في المنطقة باستخدام دول إقليمية ولو بشكل نسبي، ولكنها في الوقت ذاته ساهمت في تظهير محور قوي، محور المقاومة، في المنطقة يمتدّ من إيران إلى لبنان، وهذا المحور أثبت قدرته على كسر كل معادلات القوة التي تحاول “إسرائيل” وأمريكا فرضها في المنطقة.
ولا تستطيع واشنطن إثبات أن هذا النوع من الحروب التي أُنفق عليها مئات المليارات من الدولارات لبّى الأهداف المرجوة منه، لأنه تمكّن من تحقيق الجانب التدميري للمنطقة إلى حدّ ما، ولكنه من جانب آخر عزّز قوة المقاومة فيها بشكل كبير لا يستطيع التطور العادي لهذه القوى أن يصل إليه، فهذه الحروب بدل أن تضعف جيوش المنطقة الأساسية: السوري والعراقي والإيراني، أدّت إلى تقويتها وتمكينها من ربط تحالفات قوية مع دول عملاقة كالصين وروسيا، وهذا تنظر إليه الإدارة الأمريكية بصورة مختلفة تنمّ عن خسارة كاملة للمحور الذي تقوده، وبالتالي أصبحت دوائر القرار الأمريكية تبحث عن وسائل جديدة للحروب تمكّنها من الهيمنة، لأن الأساليب السابقة كلها لم تمكّنها من بلوغ هدفها وهو استمرار الهيمنة على العالم.
لذلك ليس غريباً أن نسمع سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف يتحدث عن أن الولايات المتحدة أقامت أكثر من 200 مختبر بيولوجي عسكري حول العالم، وهو ما يثير قلقاً خاصاً، حيث إن تطوّر التقنيات الحيوية ذات الاستخدام المزدوج يهدّد بإمكانية قيام هذه الدول باستخدامها، وخاصة أن هناك أدلّة تشير إلى أن الولايات المتحدة أجرت تجارب على البشر في الأماكن التي توجد فيها هذه المختبرات تمهيداً لاستخدامها بشكل معقّد في حروبها المقبلة.
فإذا كانت هذه التجارب بالفعل يتم القيام بها في القواعد الأمريكية في المنطقة، فإنه ليس من المستبعد أن تتعرّض المنطقة العربية لهذا النوع من الحروب في أيّ حرب مقبلة، وخاصة أن نشاط هذه المختبرات لا علاقة له تقريباً بالأبحاث العلمية السلمية، الأمر الذي يجعل من تعزيز الأمن البيولوجي في المنطقة والعالم ضرورة لابدّ منها، فهل تنتقل واشنطن إلى ما يمكن تسميته “الجيل السادس” من الحروب عبر حروب بيولوجية قذرة، في الوقت الذي تغطي فيه ذلك الأمر بحروب جانبية تخوضها هنا وهناك؟.