“بريكست” تربك المؤسسة السياسية البريطانية
ترجمة وإعداد: لما عجاج
هل ستكون بريطانيا “أسوأ أو أفضل حالاً” بعد الخروج من اتفاق البريكست؟ ربما يكون الجزء الأسوأ في اتفاق البريكست أنه لم يحقق النتائج الاقتصاديّة المرجوّة منه، بل على العكس أدّى إلى انخفاض كبير في التّجارة والاستثمار، فالصفقات التجاريّة التي أرادتها المملكة المتّحدة البريطانيّة من المحتمل ألا تحصل. لقد تعرضت رئيسة وزراء المملكة المتحدّة وزعيمة حزب المحافظين إلى هزيمةٍ ساحقة في تصويت البرلمان بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “البريكست”، حيث دعا جيرمي كوربن رئيس حزب العمّال البريطاني المعارض إلى حجب الثّقة عن حكومة ماي التي راحت تهزّ رأسها لخصمها بتجهّم، لكنها في الوقت نفسه تعلم أن كل هذه الادعاءات التي ألقاها عليها خصمها بما يتعلق بعدم كفاءة حكومتها وضرورة حجب الثّقة عنها سيكون أمراً حاصلاً.
إن اللّوم الشديد الذي تتعرض له حكومة ماي وخطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) كان كارثةً كبيرة، والهزيمة التي تعرضت لها كانت الأسوأ في تاريخ المملكة المتحدّة منذ عام 1920، لذلك كان يتوجب على حزب المحافظين البريطاني بغالبيّته التّحرك لإيجاد حل لأزمة البريكست التي جعلتهم مقيدين لثلاث سنوات قبل أن يعترفوا بعدم كفاءتها حسب قول كوربن، وربما يكون المشهد الأكثر سوداويّة هو أنه يتوجب على البرلمان في المملكة المتحدة أن يقرر فيما إذا كان يريد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فالأمر ليس بهذه السهولة كما أن عدم التوصل إلى قرار بشأن هذه الأزمة سوف يؤدي إلى انقسامات دولية، وهذا ما حذرت منه ماي منذ البداية فإذا انفصلت إيرلندا الشمالية وسكوتلندا عن بريطانيا وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي فإن بريطانيا سوف تشعر بأنها وحيدة على الساحة الدولية، كما كانت عليه قبل تأسيس الاتحاد الأوروبي في نيسان1951 وإذا استمر الحال هكذا دون أن يتوصل الحزبان إلى قرار فإن المملكة المتحدة لن تخرج من اتفاق البريكست فحسب بل ومن كل ما يتضمّن الاتفاق من امتيازات تجارية كالتجارة غير الاحتكاكية والتجارة الحرة الخالية من القيود والمعفاة من الرسوم الجمركية مع عدد كبير من الدول حول العالم، وعلى وجه الخصوص مع الولايات المتحدة الأمريكية حليف بريطانيا القديم، ففي البداية اعتقد أنصار الخروج من البريكست أن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سيمكنها من التفاوض على صفقات تجارية أفضل مع واشنطن وغيرها من شركاء بريطانيا التجاريين، ولكن من الواضح أن هذا لن يحصل أبداً في الوقت الراهن، خاصةً مع وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث قال مفوض سياسة الجوار والتوسع في المفوضية الأوروبية السابق مايكل لي: “إنه من الصعب إيجاد طريق واضح لاتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع أي دولة أخرى قبل عشر سنوات على الأقل” فقد يكون لشركاء بريطانيا التجاريين، ومن ضمنهم الولايات المتحدة واستراليا والهند أو غيرها من الدول شروطاً تجارية قاسية قد لا تتمكن بريطانيا من تحملها.
لقد كان الرئيس الأمريكي مشجعاً لاتفاق البريكست ومؤيداً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد أثنى على نتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى بشأن البريكست، وذلك خلال زيارته لأحد ملاعب الغولف التي يملكها في اسكتلندا عقب انتخابه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وقد انتقد ترامب خلال زيارته لبريطانيا سياسة حكومة ماي واعتبر أنها قد تهدد احتمالات أي اتفاق تجارة حرة بين أمريكا وبريطانيا، وقد صدمت تصريحات ترامب المشككة بخطة ماي المؤسسة السياسية البريطانية، كما صرح ترامب بعدم رغبته بالتفاوض مع ماي، والتي قد يستغرق انسحاب بلادها من التكتل الأوروبي إحدى وعشرين شهراً، وهو الموعد الرسمي لخروج بريطانيا من البريكست 29/3/2019. حيث قال مايكل لي: “إن ترامب قال موضحاً: إنه في حال حصل أي اتفاق تجاري مع أمريكا فإن المندوب التجاري للولايات المتحدة سيجري نقاشات تجارية مختلفة يراجع فيها مع مندوب التجارة في المملكة المتحدة كانت قد نتجت عن اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي”، وهي اتفاقية تجارة حرة مقترحة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والتي خرج دونالد ترامب منها ومن غيرها من الاتفاقيات التجارية المتعددة الأطراف، وأضاف مايكل لي: ” إن أمريكا تراجعت عن كل البنود المثيرة للجدل التي تم الاتفاق عليها سابقاً، ومن ضمنها اتفاقية الصحة النباتية، والاتفاقية المتعلقة بالسلامة الغذائية”.
كل هذه القضايا سوف تعود لطاولة البحث، وهذا يعود بنا إلى المربع الأول، وهو أنه بخروج الولايات المتحدة من الاتحاد الأوروبي فإنها لن تحظى بأي معاملة تفضيلية عن أي دولة من دول العالم، فعلى سبيل المثال يسعى الاتحاد الأوروبي إلى فتح مفاوضات تجارية مع أستراليا ونيوزيلندا، فالأرباح المفترضة التي يمكن الحصول عليها من هذه الدول تفوق الأرباح التي ستحصل عليها من بريطانيا، فالسوق التجارية المقدرة بـ 450 مليون يورو أفضل من السوق المقدرة بـ 65 مليون يورو. وكنوعٍ من المساعدة قدمت آسيا عرضاً تجارياً لبريطانيا، كما طلبت الهند الحصول على تأشيرات جديدة لسفر رجال الأعمال من الهند التي كان من المستحيل الحصول عليها قبل الانفصال البريطاني عن البريكست، ومن المحتمل أن يكون هناك اتفاق تجاري جديد مع الصين.
ووفق خبير اقتصادي من “جامعة برينكتون” فإن الصين التي تعيش حرباً تجارية مع أمريكا بسبب القيود الجمركية التي يفرضها عليهم ترامب، فإنه من الصعب حصول اتفاق تجاري بين بريطانيا والصين في الوقت الحالي، ولكن الباب سيظل مفتوحاً لتحقيقه.
مستقبل بريطانيا
إن التداعيات الدرامية للانفصال البريطاني من البريكست مسألة بالغة الأهمية ولا تزال تأثيراتها قائمة، فعلى بريطانيا أن تقدم الكثير من التفسيرات لتثبت مصداقيتها للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ولجميع دول العالم، وذلك حسب محللين، كما أن المفاوضات المستمرة قد تقلل من فرص بريطانيا في الحصول على صفقات تجارية مناسبة وفقاً لشروطها، ما يدعوننا للتساؤل حول مستقبل بريطانيا في المرحلة القادمة، ونحن نراها تعاني من تبعات رغبتها بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي بدوره لم يعد يرى وجودها مهماً فبروكسل لم تعد تسعى أبداً لكي تكون بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، بمعنى آخر أصبح الأوروبيون مستعدين لفكرة استمرارهم في الاتحاد الأوروبي من دون وجود المملكة المتحدة، فالانتخابات البرلمانية قادمة في أيار وبروكسل قلقة من زيادة المؤيدين للتحالف ضد الاتحاد الأوروبي فإذا خرجت بريطانيا من الاتحاد فإن دولاً أخرى ستحذو حذوها، وحتى لو تقرر إجراء استفتاء ثانٍ حول اتفاق البريكست فإن كلاً من الحزبين سيشكك في نتائجه، فعلى اليمين هناك المناهضون لحكومة ماي ولخروجها من الاتحاد الأوروبي وعلى اليسار هناك الداعمين للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فإذا تم إجراء استفتاء جديد حول البريكست فسيزيد التردد وسيطرح السؤال لماذا لا يكون هناك ثان وثالث؟. يرى الخبير الاقتصادي جيمس وغيره من الخبراء الاقتصاديين أن القاعدة الثابتة التي يجب أن نتعلمها من هذا الدرس هي “أنه من الصعب إذا لم يكن من المستحيل أن تنفصل عن كتلةٍ تجاريّةٍ عملاقةٍ مثل الاتحاد الأوروبي”، فقد شبه جيمس علاقة الحب والكره التي تربط بين بريطانيا والقارة الأوروبية بعلاقة الزواج والطلاق التي ربطت بين إليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون، وذلك من باب الدعابة، حيث “تعتبر أوروبا أكبر سوقٍ تجاريٍّ في العالم، وعلى مدى خمسين عاماً ظلت المملكة المتحدة قريبة من أوروبا، فالجغرافية مسألة معقدة والمملكة المتحدة تقع على بعد أميالٍ قليلة عن الشاطئ الفرنسي” وهذا وفقاً لما قاله ماريو جوليان خبير التجارة في مدرسة وارثون لإدارة الأعمال التابعة لجامعة بنسلفانيا، لذلك يتوجب على بريطانيا أن تحافظ على علاقات تجاريّة مفتوحة مع أعضاء منظمة التجارة العالمية على اعتبارها عضواً في هذه المنظمة على الرغم من وجود بعض العوائق المحتملة التي سوف تواجهها، فيما يتعلق بالتعريّفات الجمركيّة على الواردات البريطانية بعد “البريكست”. يتابع جوليان “حتى إن أقوى القطاعات الصناعية في بريطانيا قد تخضع لهذه التعريفات في المستقبل، مثل قطاع الخدمات المصرفية وشركات الطيران وخطوطها الجوية حول العالم “يتابع جوليان حديثه فعلى سبيل المثال شركة إيزي جيت هي شركة طيران بريطانية أغلبية مالكيها ليسوا أوروبيون إلا أنهم يقاتلون للحصول على الإذن بالسماح لهم بالطيران حول أوروبا، لذلك فإن الكابوس الذي عاشته بريطانيا سيكون بمثابة تحذير لجميع الأطراف المناهضة للاتحاد الأوروبي بأن لا تحذوا حذوّ بريطانيا وتطالب بالانفصال عن البريكست والخروج من الاتحاد الأوروبي، ولذلك وكما يقول جيمس: “إن القرار الحاسم الذي سيحدد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه سيحدده الشعب “وذلك بإجراء استفتاءٍ يحدد رغبة الشعب بالخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه، وذلك في إشارةٍ إلى الجهود الحالية التي يبذلها ماتيو سالفيني وزير الداخلية الإيطالي اليميني المتطرف بمساعدة زعيم الحزب المحافظ في بولندا ياروسلاف كاتشينسكي، والتي تدعو إلى التعاون فيما بينهما لإنشاء تحالفٍ شعبويٍّ يحل محل يمين الوسط الحاكم في ألمانيا وفرنسا في الوقت الذي يستعد فيه الاتحاد الأوروبي للانتخابات البرلمانية المرتقبة في أيار المقبل، ولكن هذا لا يعني أن إيطاليا وبولندا سيطالبان بالخروج من الاتحاد الأوروبي بل على العكس فإنهم سوف يقولان “لا.لا. تحذوا حذو بريطانيا وتطالبوا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن اسعوا إلى تغييره ليكون أقرب إلى الناس منه إلى النخب”.