رسائل شوق
د. نضال الصالح
بينما أركضُ بين أشجار المعرفة ممّا قرأتُ، وممّا كنتُ، غيرَ جمرٍ، اكتويتُ بجمره، ولم أكن أنتهي إلى غير ما انتهى مبدعُ الطوْق إليه من القول: “دقّتْ معانيه لجلالتها عن أن توصفَ”، فأكتفي بالخلْقِ الذي صرتُ إليه وأنا أتلمّسُ الحجارةَ.. أملأ رئتيَّ بأريجها، وأطلقُ لشفتيّ جنونهما بها: حبّاً، وعشقاً، وهوى، وصبابةً، ووجداً، و.. وما لا ينتهي من الوصف، بل ما لا يحيطُ به وصفٌ.
بينما أنا كذلك كانت ريم تقودني كطفل من رعشةِ روحٍ، إلى غبطةِ قلبٍ، إلى رجفةِ خصبٍ. من القلعة، إلى قبر صلاح الدين، إلى الجامع الأمويّ، إلى… وكنتُ، كلّما أدنيتُ رؤوسَ أصابعي من الحجارة، أجدني صريعَ غوايةٍ تمضي بي إلى أبهى منها، فأثملُ، حدّ الترنّح، بالفتنة الباذخة التي لا تبلغها فتنةٌ، ثمّ أحلّقُ في سماء لا تتسعُ لها سماء، وألثغُ بالشوق، والتوق، والظمأ، والجوع إلى المدينة التي فتنتني.. التي كنتُ همتُ بها قبلَ كان الأميرُ قال فيها: “آمَنتُ بِاللَهِ وَاِستَثنَيتُ جَنَّتَهُ، دِمَشقُ روحٌ وَجَنّاتٌ وَرَيحانُ”.
وبينما أنا في الجنّات والريحان كنت أرتّلُ: “صباح الاشتياق يا دمشق.. إلى وجهكِ وهو يعاند الظلمة فيبزغ أحلى من فجر منذور أبداً للكرامة، يديك الضوء وهما تتباسقان شموخاً حتى تبلغا أبعد كوكب من كواكب الدهشة، قدميك النبع وهما تتوضآن بماء بردى، جسدك الياسمين وهو يضوّع عطره في الروح حتى تنده الروح: يا شام كم يبرّح بي الشوق، التوق، الحنين! كم أنت بعيدة، وكم أقرب من حبل الوريد!” وسمعت ريم ترتل: “ثمّ رحلنا مع الصبح، وسرنا في بساتين متصلة لا يُوصفُ حُسنها، ووصلنا دمشق”، وإذْ رأتني ذاهلاً عنها، أمرتْ، من دون قولٍ، أن ألجمَ الدمع، وأن أكتبَ، فكتبتُ:
“جنّةُ المَشرقِ، ومطلعُ حُسنة المؤنق المُشرق، وهي خاتمةُ بلاد الإسلام التي استقريْناها، وعروسُ المدن التي اجتليْناها، قد تحلّتْ بأزاهير الرياحين، وتجلّتْ في حُللٍ سندسيّةٍ من البساتين، وحلّتْ من موضوع الحُسن بالمكان المكين، وتزيّنتْ في منصّتها أجملَ تزيين، وتشرّفتْ بأن آوى اللهُ تعالى المسيحَ وأمَّه، صلّى الله عليهما، منها إلى ربوةٍ ذاتِ قرارٍ ومعين. ظلٌّ ظليلْ، وماءٌ سلسبيلْ، تنسابُ مذانبه انسيابَ الأراقم بكلّ سبيلْ، ورياضٌ يُحيي النفوسَ نسيمُها العليل، تتبرّجُ لناظريها بمُجتلى صقيلْ، وتناديهم: هلمّوا إلى مُعرَّس للحُسن ومقيل. قد سئمتْ أرضُها كثرةَ الماء حتى اشتاقتْ إلى الظلماء، فتكادُ تناديك بها الصُمُّ الصّلاب: اركضْ برجلكَ هذا مُغتَسلٌ باردٌ وشراب، قد أحدقتِ البساتينُ بها إحداقَ الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتنافَ الكِمامة للزهَر، وامتدّتْ بشرقيّها غوطتُها الخضراءُ امتدادَ البصر”.
وريم تُملي، وأنا مفتونٌ بالوصف، انهمرتْ، فيّ وعليّ، أمطارٌ من الحنين إلى زمن مضى، زمنٍ رقَّ، أو دقّ في المعنى حتى تنزّه، لجلاله، عن الوصف، تضوّعَ المكانُ، أوّلُ السوق، سوق الحميدية، بالعطرِ نفسه، عطر الظبية التي كانت، قبل عقودٍ ثلاثةٍ أو تزيدُ، آوتني إلى غوطةِ روحها. ريم نفسُها التي كانت مضتْ بي إلى أنهارٍ من الدهشة، والحياة، والمعنى، و.. ورأيتُني أهرعُ إلى منبع العطر.. إلى الظبية التي أضرمتْ مدخلَ السوق بالدهشة، والحياة، والمعنى، وأذكرُ.. أذكرُ أنّ الدهشة، والحياة، والمعنى، هتفتْ، كما هتفتُ: “عندي رسائلُ شوقٍ لستُ أذكرها، لولا الرقيبُ لقد بلّغتُها فاكِ”.