63 عاما بين مقالين
أنضد هذه الأحرف في الجزء الثالث من شهر كانون الثاني 2019 وفي 28 كانون الثاني 1956 نشرت جريدة الحضارة اليومية الدمشقية المحتجبة مقالي الأول، نشرته على صفحتها الأولى وقربه صورة الأمين العام للأمم المتحدة وخبر عن زيارته إلى سورية، وكان المقال رسالة إليه. وبالفن الصحفي كان التعامل مع المقال ممتازا. وكنت آنذاك في الشهادة الثانوية.
بعد أيام من نشر المقال زرت الجريدة التي لم أكن اعرف أحدا فيها. كان لها صندوق في مدخل بناية إلى جانب مقهى الهافانا. أودعت رسالتي في ذلك الصندوق وكان حظها رائعا. لا ادري من كان أول من وقعت بين يديه. إذ لم يهملها، بل اختار لها المكان الأنسب.
بعد أيام من نشر المقال الذي كتمت أمره عن أفراد العائلة زار المنزل صديق يحترمه الجميع. اصطحب معه الجريدة. امتدح المقال، فسررت وكأن كلامه سجل مهنتي كاتبا في نظر أهل المنزل.. اتضحت لي هوية.
تثير مشاعري ذكرى المقال الأول، منذ سنوات وأنا ازهو بتلك الذكرى أواخر الشهر الأول من كل عام. تبرعت جريدة رصينة فكان منها في العام الفائت حوار مطول معي عن تجربتي. أما في هذا العام فقد أحببت أن أضع على الورق كل ما اختزن من مشاعر فكان هذا المقال. 63 عاما تفصله عن المقال الأول. أتساءل بخبث شاكرا لله ما منحني من طول العمر: هل ثمة من كتاب سورية من تفصل بين مقاليه الأول والأخير مسافة زمنية تزيد عن 63 عاما؟
سعدت بالأصداء وشغفت بالمتابعة، كانت جريدة الحضارة وطنية التوجه معنية بدعم القومية العربية في مرحلة دقيقة من التاريخ السياسي السوري. كنت اسمع من يلقبها بأنها “رديف جريدة البعث” التي لم يكن صدورها منتظما.
على مدى عام كامل كانت جريدة الحضارة منبرا مرحبا بما اكتب. تصادقت مع رئيس تحريرها الأستاذ تيسير النحاس. ازور الجريدة حاملا مقالي فينضد أثناء وجودي، فأصححه وأغادر واثقا بأنه سيظهر في عدد الغد. كانت تلك أيام ثورة الجزائر والتقارب المتصاعد بين سورية ومصر بمواجهة محور آخر رجعي هاشمي.
في تلك المرحلة تعرضت لأول كابح في حياتي الصحفية.، وأقولها بثقة”حياتي الصحفية” لأن رئيس التحرير تكرم ذات يوم فمنحني بطاقة صحفية تشير إلى أنني محرر في جريدة الحضارة، ثم لا يصح أن يمر السطر السابق دون الإشارة إلى زميل في المهنة ربما كان تعارفي به من خلال الجريدة هو الزميل عادل خطار المحامي المعتبر الذي سأسعد إن استعدت معه في يومنا هذا ذكريات تلك الأيام.
أعود إلى الكابح، ولدت للملك حسين ابنة شغلت صحف عديدة في تلك الفترة بأخبار الابنة الأميرة. جردت قلمي منتقدا حفاوة لم أجد ما يبررها، وما إن ظهر المقال في الجريدة ذات يوم حتى طرق باب المنزل في اليوم التالي قريب للوالد ومعه المقال. أشار إليه وهو يحادث الوالد: قل له ما له وابنة الملك؟ أسلوبه ممتاز وفكره نير ولكن فليأخذ هذه النصيحة من شخص عمل طويلا في السياسة: ابتعد عن الخوض في خصوصيات الناس. الملك حر في إظهار حفاوته بابنته، قد يعجب مقاله الأجواء السائدة الآن في سورية، إلا أن السياسة قلب، قد ينقلب الوضع فتولد من رحم الخصومة السياسية صداقة يكون ضحيتها خصم الأميرة. هذا ما اذكر أن السيد الوالد نقله إلي عن نائب سابق لا شك في إخلاصه.
عبّرت عن تمسكي بحريتي لكن الرأي الانتقادي شغل حيزا من تفكيري. ثمة جانب صواب في الانتقاد. ما لنا وخصوصيات الملك. إلا أن ثمة في الانتقاد جانبا آخر دغدغ عاطفة كامنة. السياسي المجرب ينظر إلي كسياسي، انه يرشدني إلى احد مفاتيح النجاح والفشل في السياسة. لا أوافقه في موضوع الخسارة جراء تقلبات المواقف السياسية لكنني شعرت بأن ملاحظته نقلتني من خانة متابع للسياسة إلى خانة ممارس مقبل لها. توسع الأفق. وتوهجت الأحلام.
د. جورج جبور