ثقافةصحيفة البعث

“لاعب الشطرنج”.. عندما يفوز الغباء بالضربة القاضية

 

 

“يا لها من معجزة، لقد نطق حمار النبي بلعام، صاح القسّ متفاجئاً وشرح للضابط الذي كان أقلّ دِراية منه بالتوراة أنّ معجزة كهذه قد حدثت قبل ما يزيد عن ألفي سنة: فيما مضى حين نطقت فجأة إحدى الدّواب كما ينطق الحكماء تماماً” ورغم تأخّر الوقت لم يستطع القس أن يمنع نفسه من دعوة تلميذه الأمّي تقريباً لمنازلته، فهزمه هو الآخر بسهولة بالغة. كانت له طريقته الشرسة والبطيئة والثابتة في اللّعب، دون أن يرفع جبهته العريضة عن رقعة الشطرنج ولو للحظة واحدة، لكنه كان يلعب بثقة تامة، ولم يكن الضابط ولا القس قادرين في الأيام التي تلت ذلك على هزيمته ولو لمرة واحدة”.

المفاجأة
لم يكن بطلنا هذا سوى “ميركو كزينتوفيك” الصّبي الصامت والغبي الذي لم يفلح في تعلم أو إتقان أي مهنة، حتى أنه لم يقدر على تلبية أيّ من المهام التي طلبت منه، عدا تلك التي تتطلب القدرة الجسدية بعيداً عن أي جهد ذهني، بل يمكن القول أنه “جمع الجهل كله” كما وصفه صاحب الرواية زفايغ، ويحدث ألّا يجد الصبي الغبي من يحتضنه بعد فقدانه والده سوى قسّ القرية حيث عجز هو الآخر كغيره في إحداث تغيير ما، وقبل بالصغير على علاته. ليفاجأ بقدرات الفتى في لعبة الشطرنج التي يعد لاعبوها أصحاب قدرات ذهنية عالية، فيهزم ضيفه الضابط ويتغلب عليه هو أيضاً. ويصبح في فترة زمنية قصيرة نسبياً لا تتجاوز عاماً واحداً من أفضل لاعبي الشطرنج، يتجاوز صيته قريته الصغيرة ويسافر خارجاً للمشاركة في المباريات الدولية.
ليست الغرابة في “لاعب الشطرنج” الرواية؛ أو بطلها “ميركو” فقط، بل في صاحب العمل “ستيفان زفايغ” إذ لم يكن ينتظر من قصته التي لم تتجاوز الثمانين صفحة، أن تبلغ من الأهمية ما بلغتها، وهو ذكر الأمر في رسائل تجاوز عددها المئة كان وجهها لأصدقائه وهو ينزلق إلى حالة من الانهيار قرر خلالها إنهاء حياته مختاراً الانتقال إلى العالم الآخر، إذ لا جدوى من البقاء على الأرض بينما حال بلاده النمسا ذاهب إلى التفتت والدمار جراء قيام الحرب العالمية الثانية: “ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي، كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضّل البائس، وهي أطول من أن تُنشر في صحيفة أو مجلة، وأقصر من أن يضمّها كتاب، وأشد غموضاً من أن يفهمها جمهور القراء العريض، وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته”.

لعب ومكاسب
تبدأ الحكاية على ظهر سفينة حيث الراوي يلوذ بسطحها هرباً من ضوضاء ركابها، وحيث يفاجأ بضجيج من نوع آخر جراء التدافع لإجراء حوار صحفي مع شخصية كبرى، وليست تلك الشخصية سوى “ميركو” بطل الشطرنج المتجه إلى الأرجنتين لقطف انتصارات جديدة يضيفها إلى مثيلاتها السابقات، سيعمل الراوي على كشف سر البطل الغبي وسر التغيير الذي طرأ عليه بعد أن اعتنى به القس وبمظهره وانتقل به إلى المدينة لمواجهة البعض من الكبار في اللعبة، وصحيح أن الفتى سيُهزم في جولته الأولى إلا أنه سرعان ما سوف ينقلب إلى الفوز، ما يؤهله لمواجهة العجوز المولع باللعبة الكونت سيكزيك، الذي زوده بالكثير من الخبرات ليغدو في أقل من عام اسماً كبيراً ليس عبر ذكائه أو ألمعيته فقد: “كان حالما ينهض من أمام رقعة الشطرنج في الجولة الثانية، الرقعة التي كان أمامها لاعباً لا أحد يضاهيه مهارة، يتحول كزنتوفيك على الفور إلى شخصية مثيرة للسخرية والضحك” ولكن ما أهمية ذلك طالما أن الأمر لا يمنع كسبه المال مقابل كل فوز يحققه: “ليس من الغريب أن يمتلئ بذاته إذن، طالما أنه لا يشك لحظة في وجود قيم أخرى في العالم غير الشطرنج والمال”.

الخصم الغريب
ترتكز الحكاية بالأساس على شخصيتين رئيسيتين وإضافة إلى ميركو الفتى البليد هناك السيد “ب” القادم من النمسا والذي لعله يمثل الكاتب لدرجة كبيرة، فهو ينتمي إلى عائلة كبيرة مقربة من العائلة الحاكمة يُعتقل عقب احتلال النمسا ويحاول قتل فراغ السجن وعزلته من خلال كتاب يحصل عليه يتضمن تعليمات وفنون لعبة الأذكياء وعدد كبير من أهم المباريات العالمية التي جرت، الأمر الذي جعله يغرق في عالم حساب قوامه احتمالات الربح والخسارة وتحركات الخصم، يلعب مع نفسه ويستزيد من الكتاب خبرة وقدرات للجلوس أمام أهم اللاعبين. وعبر حكايته التي يحكيها للراوي سينقلنا زفايغ إلى مستوى آخر وعالم آخر ذلك الذي واجهه السيد “ب” خلال فترة الاعتقال لنكون أمام مواجهة قادمة ما بين الأداء الآلي الذي يقترب من الروبوت وبين الصورة النموذجية للإنسان الهارب من العزلة، التواق إلى الحرية والانعتاق من أسر الفراغ والانتظار: “لم يكن التحقيق أفظع شيء على الإطلاق فقد كانت العودة إلى الفراغ فور انتهاء التحقيق أكثر فظاعة بكثير، العودة إلى هذه الغرفة نفسها، أمام الطاولة نفسها، على السرير نفسه”.
لم يكن استدراج البطل الذي كان يتسلح بالصمت والعزلة والعجرفة بالأمر السهل إذ يعلم تدني قدرته على خوض أي حوار أو نزال سوى أن تكون الرقعة المقطعة بالأبيض والأسود ساحته، ما كان استدراجه إلى لقاء مع الراوي بالأمر السهل إلا أن الكاتب يستعين بشخصيات إضافية تساعد على حل لغز كزنتوفيك واللعبة.
وعبر الحضور المفاجئ للسجين السابق وتدخله في مجريات مباراة بين البطل وستة من اللاعبين الهواة دفعة واحدة، وذلك سينقل التوتر والحماس إلى معرفة سر الغريب المنقذ ومحاولة مواجهته مع البطل المحترف المغرور، حيث يكسب القادم الجولة الأولى وسط ذهول الجميع، ولكن الخصم سيكتشف نقطة ضعف الدكتور أو السيد “ب” فيبدأ بوضعه تحت ضغط الانتظار واستنزاف صبره وكأنه يعيده إلى مواجهة جديدة مع السجن وحالة الانفراد والعزلة عن العالم والأفكار التي تنتابه بعد كل جلسة تحقيق مع الجستابو، يقول للراوي يبرر رفضه إتمام المواجهة مع خصمه: “كان يلزمني بضع دقائق لأدرك أن هؤلاء اللاعبين يلعبون اللعبة ذاتها التي سبق وأن لعبتها في زنزانتي خلال عدة أشهر.. ويكمل: الشيء الوحيد الذي يحيرني ويثير اهتمامي هو معرفة ما إذا كنت قد لعبت الشطرنج حقاً داخل زنزانتي في فترة اعتقالي أم أنني كنت مجنوناً وقتها”.

المواجهة الأخيرة
سيعود السيد للعب شرط خوض جولة واحدة فقط حيث ستكون المواجهة مابين عقلين مختلفين وفكرين متباينين يتصارعان ورغم أن: “بطل العالم الفائز في جميع المسابقات العالمية يعترف بعجزه أمام غريب، شخص لم يلمس رقعة شطرنج منذ عشرين عاماً” إلا أن هزيمة السيد “ب” ستكون كأنها صفعة على وجه محترفي لعبة الأذكياء ورسالة من زفايغ أن ليس كل من أتقن وعرف خيوط اللعبة بقادر على الفوز في النهاية ولعله سيواجه يوماً ما بطلاً شبيهاً بكزونتوفيك يرمق الحضور بنظرة هازئة ويقول: “يا للخسارة، لم يكن اللعب سيئاً لكي ينتهي هذه النهاية، أما صديقكم فعلى الرغم من كونه من الهواة فإن له موهبة مذهلة”.
لتقول الرواية التي أنجزها زفايغ قبيل انتحاره بفترة ليست بالطويلة ما لم يقله بالكلمات وترسم المواجهات الأشد قسوة في الحياة بين طبيعة الإنسان ومنطق العقل، بين مشاعر العجز والتوق إلى الحرية والتي جسدها زفايغ في الحقيقة حين فضل الموت على البقاء أسير الدمار الذي لا بد ستتركه الحرب على البلاد.
بشرى الحكيم