نار “الآمنة” تشعل المنطقة
بالمطلق، لم يكن اعتداء أول أمس بالطائرات المسيّرة على قاعدة “حميميم”، بما تمثّل لموسكو، سوى رسالة جديدة من تركيا، بواسطة جماعاتها في إدلب، تستكمل “برقيات” الاعتداءات المدفعية المباشرة على بعض مناطق الشمال السوري، يُراد بها – أي الرسالة والبرقيات – التهديد بإشعال المنطقة ضد الجميع إذا لم يوافقوا على إقامة “المنطقة الآمنة” التي أجّج نيرانها “ترامب” بوعده الشهير مانحاً الأطماع الأردوغانية السلطانية دفعة قوية أعمت الرجل عن حقيقة أن هذه النار قد تؤدي لاندلاع حريق كبير ستتجاوز لهبه الإقليم بأكمله في ظل وصول الرهانات الإقليمية والدولية المتعارضة إلى مرحلة حرجة على إيقاع تعقّد وتأزّم قضايا المنطقة والعالم بأكمله.
والحال فإن السلطان، الذي انتشى بالوعد “الترامبي”، وظنّ أنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفه القديم منذ بداية الأزمة السورية، والذي اصطدم حينها بحقائق الواقع الصلب، أربكه طرح بوتين، في لقائهما الأخير، لاتفاق “أضنة” على الطاولة، بما يمثّله هذا الاتفاق من حقوق وواجبات تجعل في حال الالتزام بها من “الآمنة” أمراً نافلاً، ونافراً، في علاقات يُفترض أن تكون طبيعية بين الجيران، ومنذ تلك اللحظة، وهو يسعى للهروب من تبعات هذا الطرح، تارة بالقول: إن بنود الاتفاق تضمن له حق التدخل في سورية “دون دعوة من أحد”، وبالتالي فإن إقامة “المنطقة الآمنة” حق مكتسب له إن لم يساعده الآخرون على تحقيقه “في غضون بضعة أشهر”، فإنه سيتكفّل بذلك لوحده، وتارة أخرى بطلب تعديل هذه البنود، مع تأكيده عدم استعداده للحديث مع الطرف الثاني في هذا الاتفاق، وتلك معضلة لا يفهم حلها سواه، وتارة ثالثة يهدّد بالتصعيد ضد الجميع، خصوماً الحلفاء، إذا لم تتحقّق إرادته السامية، والاعتداء على “حميميم” مثال واضح ورسالة بيّنة.
أما سبب ارتباك السلطان، فهو نابع من عهده الطويل بالإخلال بالمواثيق والعهود الموقّعة مع الآخرين، فالرجل الذي تعهّد في “اتفاقية سوتشي” للجانب الروسي بتسوية ملف إدلب سلميّاً سلّم المحافظة رسميّاً لـ”جبهة النصرة” الإرهابية ناكثاً بوعوده الموثّقة في هذا المجال، وهو أيضاً من جعل “اتفاق أضنة”، بسياسته الحمقاء، أثراً بعد عين – أقرت المحكمة التركية العليا وبصورة رسمية أن رجال استخباراته تآمروا لافتعال أعمال إرهابية على الحدود مع سورية تتيح لهم التدخل لاحقاً في شؤونها- لأنه يعرف أن الاتفاق لا يمنح حقوقاً يتذرّع بها فقط، بل يرتب واجبات، لا يريد، ولا يمكن، لمن يستثمر في الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية القيام بها، وأول هذه الواجبات “إعادة الأمور على الحدود بين البلدين كما كانت، والتوقّف عن دعم الإرهاب وتمويله وتسليحه وتدريبه وسحب قواته العسكرية من المناطق السورية التي يحتلها”، “وذلك حتى يتمكّن البلدان من تفعيل هذا الاتفاق الذي يضمن أمن وسلامة الحدود لكليهما” بحسب المنطق الطبيعي لكيفية سير الأمور بين بلدين تفرض عليهما الجغرافيا قبل التاريخ، ومعه، حسن الجوار.
نهاية القول: يعيش العالم مرحلة انتقالية بين نظامين دوليين يحاول الطرف المتضرّر، وهو واشنطن، إشعاله، وإشغاله، بحرائق متنقّلة وأزمات متفرقة كي يتأخر هذا الانتقال، ووهم “المنطقة الآمنة” إحدى هذه الحرائق – وفنزويلا لن تكون آخرها– فيما السلطان المنساق خلف أوهام اغتنام اللحظة “التاريخية” لاستعادة مجد “الباب العالي” ما زال سادراً في غيّه، متجاهلاً حقيقتين جليتين: الأولى، أن قرار سورية، شعباً ودولة، وحلفاءها من خلفها وبجانبها، واضح باستعادة أراضيها حتى آخر شبر مهما كانت التكلفة، والثانية، أن الحريق الذي يساهم، بأطماعه وأوهامه، في اشتعاله لن يوفّر أحداً، وستلتهم نيرانه الجميع.
أحمد حسن