الفأر الذي هدم سدّ مأرب
طبعاً لسنا هنا بصدد التكلّم عن آليّة الفكاهة أو المفارقة السّاخرة حتى لو وجدا في قلب الفكرة التي نحن نسوقُها هنا، بل نحن أمام مأثور تاريخي مؤسطَر ومغلّف بثوب حكاية رمزيّة جميلة وقويّة المدلول رغم بساطتها الخارجيّة. والسؤال الآن هو: هل الحكاية الشفويّة والمكتوبة باعتبارهما موروثاً سرديّاً، توثّقان التاريخ وتعكسان مصداقيّته الواقعيّة؟ أم يكفيهما أن تقولا ذاك الجانب الميتاواقعي كوجه آخر لثنائيّة الوجود؟
أعتقد أنّ مهمّة الأدب عموماً والحكاية الشفويّة في طيّاته هي جماليّة، أمّا التوثيق التاريخي فمهمّة المؤرّخ، لكن مع ذلك فللأدب مهما خرج من عباءة الواقع إلى الرمز والإيحاء أن يعكس الكثير من معطيات العصر وعاداته وأعرافه بالمستوى الاجتماعي ولذلك قيل: أن تقرأ قامة أدبيّة عملاقة في مرحلة ما، فإنّك قد تستغني عن كتب تاريخية ودراسات كثيرة تنطّحت لدراسة هذه المرحلة. أمّا قصّة فأرنا الذي هدم السّد فهي توضّح ببساطة وعي تلك المرحلة التي كان يعيشها إنسان ما قبل الميلاد. ولعلّها حالة الحلم الإنساني قبل تجسّده معرفةً، حالة الاعتقاد والتّفسير التي لم تكن تمتلك الرؤية المنطقيّة، حالة الروح العفويّة المندهشة تجاه ظواهر الوجود قبل أن تنقسم على نفسها، وتعرف ذاتها أكثر. باختصار يمكن توصيفها بالوعي الجمالي للعالم الذي يحاول تفسير ما يراه بضوء حدسه وحساسيّته الجماليّة المندهشة والمتسائلة دوماً. حالة الجمال المعنوي قبل أن يتجسّد مادةً أيقونيّة الملامح والأفكار. فإذا بحثنا في ثنايا سرديّتنا هذه، عن معطيات تاريخيّة وواقعيّة سنجد أنّ “مأرب مدينة يمنيّة موجودة حتى الآن، وسدّها الذي بناه السّبئيّون لتجميع مياه السّيول الجبليّة المحيطة، وتحويل الأرض الجرداء إلى جنّة خضراء تشهد عليها حضارة اليمن السعيد الزراعيّة العظيمة آنذاك، كان موجوداً وترويه القصص التراثية والدينيّة الكثيرة، وأنّ هناك قوى داخليّة وخارجيّة قويّة كانت تتنازع حكم اليمن، وتكيد لبعضها البعض بشتّى الوسائل والمؤامرات، وتستعين بالخارج لتقويض ممالك عائلات وقبائل الدّاخل، لكن الجانب التّخييلي سرعان ما يطغى على الحقيقة التّاريخيّة ويعطيها بعداً فانتازيّاً جميلاً، قد تطمس فيه معالم التاريخ الحقيقي؟.
تقول الحكاية التّخييليّة بأنّ السبئيين عُوقبوا لسببٍ ما بهدم سدّهم بطريقة غريبة وهي تسليط فأر له مخالب من حديد تمكّنَ من قرض جدران السّدّ حتى تداعت وتسبّب ذلك بهدم مملكتهم وتدمير أراضيهم. أمّا كهّانهم، وهذا دور الطّبقة الدينيّة دوماً، فكانوا يعرفون بأنّ هذا ما سيحدث لذلك حاولوا سدّ الثّغرات، التي يمكن أن ينفذَ منها هذا الفأر العجائبي، محتاطين بالقطط الحارسة، لكن ذكاء فأر الأسطورة كان أعظم، فقد تحايل على إحدى هذه القططّ وغافلها ليدخل تحت جدار السّدّ، ويحفر دون أن تنتبه حتى إذا جاء السيل الكبير ووجد هذا الخلل دخل فيه وهدم السدّ: يقول الشاعر اليمني متبنياً القصّة الخارقة “عمر بن معد يكرب الحميري” عن ذلك شعراً أقرب إلى الحكمة:
ولا تحتقر كيدَ الضّعيف فربّما تموت الأفاعي من سمومِ العقاربِ
فقدْ هَدّ قِدماً عرشَ بلقيسَ هدهدٌ وخرّب فأرٌ قبلَ سدَّ مأربِ
والغريب أنّه حتى الآن يكاد أغلبنا، نحن سلالة الثّقافة الذّكوريّة، يجاوب عن دمار الحضارات القديمة والحديثة بنفس الطريقة العجيبة التي تفتقد للمنطق والعلم والرؤية الواقعيّة التّاريخيّة، فيراها كفعل ما فوق الطبيعة مارسته القوى الخفيّة المتحكّمة بالكون لتصهر قوم لوط في سدوم وعامورة بسبب فسقهم وضلالهم، وتحوّل زوجته إلى عمودٍ من ملح أو دخان بمجرّد أنّها لم تستمعْ لكلامه ونظرت خلفها.
وبسبب النّمل تُهدم الممالك والقرى، وتتداعى العروش العظيمة كعرش بلقيس ملكة سبأ أيضاً، الذي انتقلَ بغمضة عين إلى أماكن بعيدة أرادها أحد حاخامات التّوراة “سليمان” بمجرّد إيعازه لطائر الهدهد أن يفعل ذلك. وهكذا بحكم هذا الوعي التّخييلي الماقبل تاريخي تُبنى الحضارات وتُهدم بأسبابٍ أسطوريّة. كما يمكن لحالاتٍ تنبؤيّة يقوم بها رجال غيبيّون يقرؤون في دفتر الغيب وطلاسمه، أو بعبور طائر شرير في أعرافهم كالبوم أو الغراب مثلاً، أن يحدث طوفان مدمّر بلا سببٍ منطقي، أو يحدث غزو كبير أو حريق هائل دون مقدّمات، أو يمتلئ مجتمع بقوى الفساد بقدرة قادر، دون معرفة الأسباب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، عبر التّغاضي المطلق عن سلبيّات سوء الإدارة والبيروقراطيّة وغياب الدور الرقابي على مؤسّسات المجتمع، وهذا كلّه يساهم في تغوّل هذه القوى وتوحّشها في ممارسة ساديّتها على الفئات المستضعفة، وحيوان قصّتنا الصغير الغريب الذي قد يكون الخلد مثلا، الحيوان الفأريّ الملامح، الأعمى الذي يحفر أنفاقه تحت الأرض ويختبئ مخرّباً مزروعات الفلاحين وأراضيهم، حسب ما تمليه عليه طبيعة حياته الخاصّة ضمن فيزيائيّة التوازن البيئي للوجود عموماً، الذي بُنيت عليه هرميّةُ الطبيعة ونظامُها الدقيق، وتوزّع كائناتها اللاحمة والعشبيّة، حيث اللّواحم تأكل الكائنات الأليفة، التي تأكل بدورها العشب مدمّرة الغطاء الأخضر ومساهمة في ازدياد مساحة التصحّر، والإنسان بدوره يربّيها بكثرة ليستفيد من لحومها وصوفها وروثها، وحتى الحشرات الضارّة التي تطغى على المزروعات، ثمّة حشرات نافعة أخرى تُربّى من قبل البعض لتقضي عليها وهكذا دواليك.
وبالعودة إلى فأرنا التّاريخي، نسأل: ألا يوجد له شبائه من القوارض البشريّة الكثيرة هذه الأيام؟ ما زالت تقوّض ما تبقّى من دعائم وأحلام مجتمعنا وتفتك بنسيجنا الجمعي بكلّ ما تستطيعه من وسائل، أليست قوى الفساد المستشري التي نمتْ بين ظهرانينا وفي الضّوء تماماً، وتغذّت على دماء الشهداء وعرّشتْ في كلّ المفاصل والمؤسّسات، والعصابات الظلاميّة الأصوليّة والاحتكاريّة الجشعة المتخفّية والظّاهرة هي من فتكت وما تزال بروح الإنسان والمجتمع والتاريخ؟ أليستْ هي فئران هذه الأيام العجيبة التي أوصلتنا إلى هذا الموت والانهيار في كلّ شيء؟!. ألم تحمل الفئران الحقيقيّة والرمزية الطاعون والمجاعة والدمار أينما حلّتْ، ألا يذكر المهتموّن فينا تلك الرواية الذكيّة “فئران الأنابيب” للكاتب الفرنسي “ميشيل كليرك” عن أمراء النّفط وملوكه، قادة الخراب في كلّ العالم. الرواية الشهيرة في سبعينيات القرن الماضي. أليستْ الفئران البشريّة الحديثة التي غدت وحوشاً لا تشبع، هي من خرّب اليمن الآن، وقتل الحياة فيه كحقيقةٍ مرعبة وجليّة أمام الضّمير العالمي أجمع، وهي أشدّ راهنيّة وواقعيّة من أن نتوسّل أسطورة لابتداعها؟!.
أوس أحمد أسعد