دراساتصحيفة البعث

القومية العربية في العين الأمريكية

الدكتور. سليم بركات

لقد بات واضحاً أنّ الأحداث التي عصفت بالوطن العربي، وفي الطليعة سورية تحت شعار ما يسمى “الربيع العربي”، أحداث ملبية لأهداف الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية التي تسعى لاستئصال الهوية القومية العربية من وجدان الشعب العربي للقضاء عليها دون رجعة، ومن ثمّ لمنع أي تعاط اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو ثقافي بين العرب من منظور قومي، وبالتالي منع قيام أيّ صيغة من صيغ التوحيد أو التعاون، أو التضامن حتى لا يلتقي العربي بالعربي أيديولوجياً أو تكتيكياً أو استراتيجياً بأي هدف من أهداف الأمة العربية الواحدة، ولو كان بالحدود الدنيا لهذه الأهداف، وحتى تبقى الأشلاء العربية متناثرة تعاني التفتت والانقسام لمصلحة المشروع الامبريالي الصهيوني المحمي بالهيمنة الأمريكية، وتبقى قضية العرب القومية قضية وجود أو لا وجود، والدليل هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة العربية منذ عام 2011 وحتى يومنا هذا.

على الرغم من صعوبة هذا الواقع العربي وما فيه من تدمير، وتخريب، وقتل، وتشتت.. يتعذر النظر إليه إلا على أنه بمثابة الخليّة الحيّة لأجيالنا، التي كتب لها أن تقاوم لتبقى، وهذا يعني أن العروبة التي ترغب الولايات المتحدة الأمريكية بتطويعها أولاً والقضاء عليها ثانياً هي العمود الفقري الأكثر صلابة للملايين العربية المستهدفة من قبل أمريكا، ومن يدور في فلكها من الرجعية العربية، وأدواتها الممثلة بالإسلام السياسي الإرهابي، ومن المسيحية المتصهينة المسيطرة على عقول النخبة الحاكمة في البيت الأبيض، والتي كانت خلف وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، والدليل على ذلك هو تبني الإدارات الأمريكية المتتالية لتكريس الهوية الطائفية المذهبية في الوطن العربي، ووضعها في مواجهة القومية العربية، حتى يبقى الوطن العربي مهدداً بأمنه وباستقلاله، لا بل بمصالحه القومية كافة.

من هذا المنطلق نستنتج أنّ القومية العربية وخطابها القومي في دائرة الاستهداف من قبل التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي، الأمر الذي يستدعي تفعيل هذا الخطاب، وتطويره إلى المستوى الذي يجعل منه المرجعية الوحيدة المطلقة للعرب لما فيه من العناصر المكونة للمجتمع العربي، الذي يوحّد العرب ويحفّز طاقاتهم، ونقصد هنا بالمرجعية المطلقة، المرجعية العربية القومية التي تشخّص العلل وتدرك المخاطر المحدقة بالأمة العربية، وتكون الأقدر على وصف العلاج الواجب اتباعه لمعالجة هذه العلل من خلال ترسيخ الوعي وتنمية الطاقات التي تذخر بها الأمة العربية. وهذا لا يكون من حيث المبدأ إلا من خلال مواجهة التحديات الامبريالية الصهيونية الرجعية التي تتطلب الالتزام بالثوابت القومية الوحدوية للأمة العربية.

من هذا المنطلق نستشف ضرورة إيجاد مثل هذه المرجعية لبلورة الموقف القومي العربي في ضوء ما حدث وما يستجد من أحداث، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيفية البداية لخلق مثل هذه المرجعية حتى يكون الوصول للصيغة المطلوبة، والتي هي شكل من أشكال التنظيم على المستوى القومي، وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأي تنظيم يمكن أن يقدم الصيغة المتكاملة المطلوبة في ظلّ الظروف الراهنة للشعب العربي، والتي لا تسمح حتى بالحوار على المستوى الرسمي العربي، ولكن ومهما كان الحال قرباً وبعداً فيما يخصّ وجود مثل هذه الصيغه، لابد من القول: إنها ضرورية وتحتاج إلى المناخ الملائم الذي يتقبل مثل هذا الطرح، في مثل هذه الظروف التي تعصف بالأمة العربية من المحيط إلى الخليج.

الأمر الآخر الذي تتطلبه المرحلة، ويؤدي إلى هذه الصيغة هو إيجاد الخطاب القومي الأقدر على معالجة قطبي الشكل والمضمون لهذه المرجعية القومية، إيجاد متميز بالدقة والموضوعية، وبصيغته الوظيفية للتعبير عن فكرة ينتج عنها عمل، أكان هذا العمل تعبوياً أم كان عملياتياً، الأمر الذي يجعل هذا الخطاب في صميم الوجدان العربي لتعزيز الثقة وبعث الأمل بالمستقبل. وهل نبالغ إذا قلنا أن قضية الوجدان أو الوعي القومي العربي هي القضية المركزية المستهدفة من قبل أعداء الأمة العربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل؟.

إنّ إحدى مهام هذا الخطاب المستجد هي تجسيد الفكر القومي العربي ونقله إلى واقع ملموس، ولمّا كان الابتعاد عن ذلك هو السبب الرئيسي لنكسات الأمة العربية فيما مضى، فلابد من تغيير جذري في معالم هذا الخطاب من حيث المضمون كي يتجاوز الماضي ويجسد تطلعات الشرائح الواسعة للجماهير العربية التوّاقة لهذا الخطاب ومشروعه بعيداً عن التمنيات التي سمحت في الكثير من الأحيان لفئات المرتزقة في امتلاك الساحة الوطنية القومية، كما سمحت باختراق النخب المثقفة من قبل الاستعمار وأدواته النفطية، والتي كانت سبباً للضعف الفكري العربي وعدم صلابة المواقف المبدئية العربية التي غلبت المصالح الفردية على المصالح العامة. الأمر الذي يستوجب المراجعة النقدية لمواقف تلك النخب، وربما كانت الحاجة ماسة لفضحها وتفنيد افتراءاتها واستبدالها برؤى واضحة وعلمية.

إنّ مقياس نجاح الخطاب القومي العربي هو بفاعلية هذا الخطاب، وليس المطلوب أكثر من هذه الفاعلية، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو ماذا جلب غياب الخطاب القومي للعرب؟ جلب لهم الابتعاد عن العروبة، تمجيد الانتماء القطري ووضعه في مقدمة الأولويات، ومن ثمّ تنمية مشاعر التفرقة، وإقامة الجدران بين قطر وقطر آخر، وعلاوة على ذلك رفعت شعارات تمجيد الانفصال والنزعة القطرية، وأصبح كل نظام عربي يريد العثور على انتماءات أخرى فرعونية، فينيقية، إفريقية.. انتماءات سببت الضيق، والانغلاق، والمصائب، والمشكلات الداخلية، والعنف الدموي، والانقسام الطائفي، والحروب الأهلية، وتفشي البطالة والفقر، والجهل، والأمية، والحبل على الجرار.

لا شك أنه يوجد الكثير من العقبات والتحديات التي تواجه الفكر القومي العربي المقاوم، إلا أن هناك ضرورة ومصلحة في أن يستعيد العرب مكانتهم، وهذا لا يكون إلا من خلال تحقيق مشروعهم القومي، والمدخل لذلك هو تفعيل العروبة، وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية حضارية للانطلاق منها نحو الوحدة العربية، وما يجري في الوطن العربي، ولاسيما في سورية ومصر من انتصارات على الإرهاب والجماعات المهددة للوحدة الوطنية، مؤشر على بداية مرحلة عربية جديدة وهي مواجهة التحدي بالتحدي، وهذا بدوره يحتاج إلى أن يستعيد العرب وفي الطليعة ذوي الفكر والثقافة ثقتهم بنفسهم وعروبتهم، وبما يتناسب مع معطيات العصر الديمقراطية التي تشاطر الآخرين آراءهم.

ما من شك بأن إحداث تحول ديمقراطي حقيقي وجاد في الوطن العربي يشكل مدخلاً رئيسياً للخروج من حالة التردي والعجز والأزمة الاجتماعية التي يعاني منها الوطن العربي في درجات متفاوتة بين دولة وأخرى، ولكن وإن كانت البيئة الخارجية تنضوي على بعض المتغيرات ذات التأثير الإيجابي في عملية “الدمقرطة” هذه فإن إنجاز تحول ديمقراطي قادر على الاستمرارية، لا يتوقف أساساً على العوامل الخارجية، لأن العامل الديمقراطي مؤسس أصلاً على العوامل الداخلية، والتي تستلزم اجتماعياً وجود قوى ديمقراطية فاعلة وحيّة تؤمن بالمشروع الديمقراطي وتناضل سلمياً من أجل تحقيقه، فضلاً عن بناء ثقافة سياسية ديمقراطية تشكل إحدى المرتكزات الأساسية للتحول الديمقراطي، أما دور العوامل الخارجية في إحداث مثل هذا التحول الديمقراطي في الوطن العربي فيجب أن ينظر إليها من منظار التجربة ليس أكثر، وهل نبالغ إذا قلنا أن الدور الأمريكي الذي هو محلّ تجاذب ورغبة من الباحثين والمثقفين العرب في عملية التحول الديمقراطي ليس أكثر من عملية مزدوجة منافقة فاقدة للمصداقية على مستوى المنطقة والعالم، والدليل هو عدم وجود أيّ سجل ديمقراطي ضمن أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة العربية قبل أحداث أيلول 2001، بل على العكس نجد لها سجلاً طويلاً في دعم النظم التسلطية والاستبدادية ذات الصلة بالمصالح الأمريكية في النفط والغاز وصفقات الأسلحة والقواعد والتسهيلات العسكرية وغيرها.

بقي أن نقول: إنّ إنجاز الدولة الوطنية القومية ومستقبلها في الوطن العربي سيبقى تحدياً مفروضاً على الأمة العربية، في ظلّ تصاعد وتنوع تحديات الواقع والعولمة والهيمنة والاستعمار والاستيطان المحمي بالهيمنة الأمريكية، إنجازٌ لا يمكن مواجهته إلا بوعيٍّ وجهدٍ قوميٍّ عربيّ جديد، موحّد ومقاوم.