اليورو يبلغ عامه العشرين
علاء العطار
أكمل اليورو عامه العشرين في بداية هذا العام، وخلال فترة حياته شقّ طريقه متجاوزاً عقبات عدة صعوداً ونزولاً، فبعد حوالي عقد من التحضيرات انطلق من محطته الأولى عام 1999، وفي الوقت نفسه دخلت منطقة اليورو حيّز التنفيذ، وبدأت في تداوله 11 دولة بشكل افتراضي عبر الشيكات وبطاقات الائتمان فقط، ولم تُستخدم العملات المعدنية والورقية إلا بحلول عام 2002، وحلّ محل العملة الوطنية في 12 دولة بدايةً. وبدأ غضاً طرياً أمام العملة الأمريكية، فهبط منذ ولادته إلى أقل من 85 سنتاً مقابل الدولار، مع أن فكرة اليورو نشأت بهدف خلق اقتصاد أوروبي أكثر استقراراً، ولمنافسة الدولار الأمريكي الذي كان مهيمناً على العالم، لكن بغضون فترة وجيزة نسبياً، نجح في تحسين النمو الاقتصادي ضمن منطقة اليورو، وسمح بمزيد من التكامل بين أسواق المال، كما عزّز الحضور الأوروبي في الاقتصاد العالمي عبر كونه عملة احتياطية، وخفّف من تقلبات أسعار الصرف بين الدول الأعضاء.
ويعود نجاح هذه العملية الضخمة إلى التحضيرات الدقيقة والمشاركة الفاعلة لجميع القطاعات المعنية وحماسة الشعوب، ليمسي اليومَ ثانيَ أكثر عملة تداولاً في الصرف الأجنبي بعد الدولار، كما أصبح ثاني أكثر احتياطات النقد الأجنبي انتشاراً في البنوك المركزية.
وعلى الرغم من أن اقتراح اليورو جاء على خلفية توحيد الاتحاد الأوروبي بكامله، وتعهّدت جميع الدول الأعضاء الثماني والعشرين باعتماده، إلا أنه توجّب على الدول الأعضاء أن تُلبي معايير معيّنة حدّدتها معاهدة ماسترخت قبل أن تتمكّن من التحول إلى اليورو، ونتيجة لذلك، لم تعتمد تسع دول العملة، وهي بريطانيا وبلغاريا والسويد وكرواتيا والتشيك ورومانيا والدنمارك والمجر وبولندا.
وبحلول عام 2018 أصبح عدد الدول التي اعتمدت اليورو 23 دولة، 19 منها ضمن منطقة اليورو وأربع من خارجها، وهي أندورا والفاتيكان وموناكو وسان مارينو.
استفادت هذه البلدان من الفوائد العديدة التي جلبها اعتماد اليورو، فتمتّعت الدول الصغرى بالدعم من اقتصادات أوروبا القوية، كالاقتصاد الألماني، كما تلذّذت تلك الدول بأسعار فائدة منخفضة، ذلك أن المخاطر لم تُحِق باليورو بمثل ما كانت تُحيق بالعملات الأقل تداولاً، ما جعلها عملة جذّابة في نظر المستثمرين، وبمضي الوقت، أدتْ أسعار الفائدة المنخفضة إلى مزيد من الاستثمار الأجنبي، ما عزّز اقتصادات الدول الصغرى، عدا عن أنه أصبح بمقدور الشركات الكبيرة زيادة إنتاجها بتكلفة أقل، واستفادت من فورات الإنتاج الكبير، وصدّرت سلعها الرخيصة إلى دول منطقة اليورو الأقل تقدّماً.
كما استفادت تلك الشركات من الاستثمار الرخيص في الاقتصادات الأقل تقدّماً، ما أدى إلى زيادة في الأسعار والأجور داخل البلدان الصغيرة، في حين لم يكن لذلك تأثير على الدول الكبرى، واكتسبت تلك الشركات ميزة تنافسية أكبر، فقد أتاح لها اليورو تصدير التضخم الذي يأتي عادة مع مرحلة توسع الدورة الاقتصادية، ما جعلها تتمتّع بفوائد ارتفاع الطلب والإنتاج دون دفع ثمن أعلى. لكن العملة الموحدة رافقتها مشكلات جديدة، وخاصةً بعد أن أصبحت تُتداول بين 19 دولة في منطقة اليورو، وأول عقبة واجهتها على سكّتها تمثّلت باستعمال عملة مشتركة ضمن مجموعة كبيرة من البلدان ذات الاقتصادات المتباينة. فبحسب خبراء اقتصاد، لم يستوفِ بعضها “معايير منطقة العملة المثلى”، وافتقر بعضها إلى “التزامن الدوري”، وكان من الصعب عليها المضي باقتصادٍ لا يتوافق مع اقتصادات البلدان الأخرى.
على سبيل المثال، احتاجت إيرلندا في الفترة الممتدة ما بين عامي 2004 و2006 إلى وضع سياسة نقدية أكثر تشدداً من تلك التي وضعها البنك المركزي الأوروبي بفضل فقاعة الإسكان وفرط النشاط الاقتصادي، لكنها تخلّت عن قدرتها في رفع قيمة عملتها أو رفع أسعار الفائدة، وبالمثل، عندما احتاجت إيرلندا في الفترة الممتدة بين عامي 2009 و2013 إلى وضع سياسة نقدية أقلّ تشدداً من سياسة البنك المركزي الأوروبي بسبب الركود الحاد، لم تتمكّن من خفض قيمة عملتها أو طباعة نقود أو خفض سعر الفائدة.
وتمثّلت العقبة الثانية بأنه توجب أن يكون لدى الدول الأعضاء سعر فائدة متماثل نسبياً لتجنّب الموازنة بين أسعار الفوائد، ما خلق مشكلات أمام بعض الدول، كألمانيا، فأزال اليورو سعر الفائدة الذي كان يُستخدم كأداة للسياسة النقدية، وإنْ تباطأ الاقتصاد المحلي، لا تستطيع الحكومة المحلية خفض أسعار الفائدة لتحفيز التنمية، وباتت كل حكومة تضع سياسة نقدية خاصة بها ما أثر بالنتيجة في قيمة اليورو.
وتعدّدت الأسباب التي دفعت باقي دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم اعتماد اليورو، فأبى بعضها التنازل عن قدرته في التحكّم بتحديد سياسته النقدية والمالية في حال انضمّ لمنطقة اليورو، ذلك أن اعتماد اليورو يعني فقدان البلد قدرته على طباعة عملته، فهي التي تتيح له التحكم بالتضخم عبر رفع أسعار الفائدة أو خفض الكتلة النقدية.
وتحتّم على تلك الدول الحفاظ على نسبة عجز الميزانية السنوية بسقف يقلّ عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويجب أن تكون نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من 60%. ببساطة، لم يكن العديد منها قادراً على خفض الإنفاق بما يكفي لتلبية هذا المعيار.
ولا ريب أن اندلاع أزمة الديون اليونانية في أوائل عام 2010 قد هدّد منطقة اليورو، ولم يتمكّن القادة الأوروبيون من الاستجابة بفعالية، ورغم تطمينات الاتحاد الأوروبي للمستثمرين بأنه سيتكفّل بأمر قروض جميع أعضاء منطقة اليورو، لكنه في المقابل طلب من الدول المديونة الشروع بإجراءات التقشف لخفض حجم إنفاقها، وهذا ما أتى بنتائج عكسية، حيث تسبّب في انخفاض الدخل في البلدان المحيطة بنسبة أكبر مما توقعته المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ولم يحقّق التقشف المالي هدفه المتمثل في وضع بلدان كاليونان على مسار الديون المستدامة، بل كان الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي أكبر من أي انخفاض في الديون، ما أدى بدوره إلى ارتفاع نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل أسرع.
وكادت عدوى أزمة الديون اليونانية أن تنتشر في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا، ومع أن الاقتصاد الأوروبي انتعش منذ ذلك الحين، إلا أن بعض المحلّلين قالوا إن أزمة منطقة اليورو لا تزال تهدّد مستقبل اليورو، بل والاتحاد الأوروبي نفسه.
تُعدّ تجربة اليورو تجربةً فريدة، لكن هذه العملة تسير على الحافة، خاصة وأن الاقتصادات الرئيسية في منطقة اليورو معرّضة لخطر الانهيار، فإما أن يضع البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي على عاتقهم إنقاذ العملة الموحدة بشكل فعّال عبر تقديم كفالات إنقاذ مالي لأعضاء منطقة اليورو لمنع تفشي العدوى، أو أن هذا الاتحاد النقدي بأكمله سيُواجه عواقب وخيمة، ولاسيما خطر الانهيار.