ذرائع و”عميان”.. وعالم في خطر
ليس جديداً في عالم السياسة أن تُستخدم “الذرائع بدلاً من الوقائع” لتبرير إقدام البعض، دولاً وأفراداً، على خطوات سياسية عاقلة أو “مجنونة”، لتحسين مواقعهم، أو تحقيق مطامعهم، وأيضاً ليس جديداً أن يؤدي “الجنون” في استخدام الذرائع إلى مخاطر عظمى لا تصيب المستهدف منها فقط، بل صاحبها أيضاً، والأغلب أن تطاول شظاياها أطرافاً ثالثة لا ناقة لها ولا جمل في القضية كلها.
وبالطبع لا يوجد، في عالم اليوم، “سياسي” – إذا جاز الوصف – استخدم الذرائع لتبرير سياساته “المجنونة” مثل ترامب، سواء وهو ينسحب من اتفاقية باريس للمناخ واتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، أو من معاهدة الاتفاق النووي مع إيران، أو أخيراً، وليس آخراً، الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى مع روسيا، وتلك، بامتياز، أخطر “انسحاباته” وأكثرها مدعاة للترقّب والقلق.
فإذا كان توقيع الرئيس الأميركي الأسبق “رونالد ريغان” والسوفييتي “ميخائيل غورباتشيف”، على هذه المعاهدة عام 1987 قد اعتُبر في حينه إنهاء غير رسمي للحرب الباردة، فإن انسحاب “ترامب” منها اليوم “يعيد إطلاق سباق تسلّح نووي بمفعول تدميري قد يكون أكبر بكثير مما كانت عليه حال القدرة الكارثية للسلاح النووي في عام 1987″، بحسب توقعات خبراء كثر، وإذا أضفنا إليها تهديده بغزو فنزويلا عسكرياً، وإعلان أجهزة استخباراته أن المواجهة مع الصين “مواجهة أيديولوجية”، وبالتالي حتمية “لن تحتويها اتفاقيات تجارية، ولا حملة لوقف استحواذ الصين على أسرار تكنولوجية”، فإن حرباً عالمية جديدة تصبح قريبة أكثر فأكثر، وهي حرب لا يعدم عالم، يعيش فترة انتقالية مضطربة بين نظامين دوليين، فتيلاً لإشعالها، قد يكون طرفه في فنزويلا بعد تدخل عسكري أمريكي يعتقد مسؤولون بارزون أنه “بات مسألة وقت” لا أكثر، وقد يكون في روسيا بعد إعلان ترامب عزمه وضع “خيارات للرد العسكري” بالتعاون مع “الناتو” لمنع تفوّقها عسكرياً، نتيجة “خرقها” للاتفاقية، كما قال، وقد يكون في جوار الصين الآسيوي، حيث “الفتائل” الكثيرة هناك لا تحتاج إلا إلى “اصطناع” “بيرل هاربر” جديدة ليشتعل العالم بأسره.
بيد أن المفارقة اللافتة للنظر تتمثّل بوقوف الاتحاد الأوروبي بشكل أعمى خلف ترامب في أغلب معاركه، وتسليمه بذرائعه كلها، رغم عدم استثناء هذا الأخير لـ”الاتحاد” من قائمة ضحاياه، في إطار سعيه المحموم لتحجيمه وإذلاله تارة، وتفكيكه بالكامل تارة أخرى، وأيضاً رغم معرفة الأوروبيين أن “حروب ترامب” وذرائعه، ستدفع ثمنها بلدانهم أولاً، كما قال وزير خارجية المجر، حين أشار إلى أنه “عندما يحدث نزاع بين الشرق والغرب، فإن الأوروبيين هم دائماً الخاسرون”، وتلك مفارقة لا يمكن تفسيرها سوى بصعود ما يسميه البعض “متلازمة العصبية البيضاء” المترافقة مع هلع مشترك من تحوّلات ما سمّاه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوماً ما، عالم ما بعد الغرب”، وهذا الهلع، وتلك المتلازمة، هما التفسير المنطقي “المزدوج” لاعتماد “زعيم العالم الحرِّ”، وتصديق “غربه” الأعمى له، على ذرائع لا يسندها دليل مادي منعاً، أو تأخيراً على الأقل، لمستقبل تقول الوقائع، المتتالية والملموسة: إنه قادم لا محالة.
في خطابه الثاني له، منذ توليه الرئاسة، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قال ترامب: إنه ومنذ خطابه الأول أمام الجمعية الذي قدّم فيه “رؤية لتحقيق مستقبل أكثر إشراقاً للبشرية جمعاء”، حقق “تقدّماً مذهلاً” في هذا المجال، وذلك صحيح، لكن بشكل معكوس بالكامل، فالرجل، ومنذ جلوسه على كرسي الرئاسة خلف المكتب البيضاوي، وهو يدفع العالم أكثر فأكثر نحو حرب عالمية جديدة – قد تكون نووية هذه المرة – قال عنها “إينشتاين”: لا أعرف ما هو نوع الأسلحة التي ستستخدمها البشرية في الحرب العالمية القادمة، لكنني أعرف أنها ستستخدم الحجارة والعصي في الحرب التي ستليها.
أحمد حسن