نَعمة أم نَقْمة ؟!!
عبد الكريم النّاعم
ليس من باب التّفاصح، أو التّشاوف، بل ما سأدلي به هو حقيقة واقعة، أعرفها جيّداً، وكم توقّفتُ عندها، وخشيتُ ممّا شُحِنتْ به من سلبيات، من وجهة نظري، بيد أنّ هذا كلّه لم يمنعني من المكاشفة، وأنا آمل أن يكون لي أمثال من الكتّاب، أو من القرّاء المميَّزين الذين لا تقلّ قراءاتهم، واستيعابهم عن الذين صارت الكتابة جزءا من حياتهم.
منذ أن شُغفْتُ بالقراءة، وهذا شغف قديم لا أدري له مصدراً، ففي تلك القرية كانت غاية (القارئ الكاتب) أن يفكّ الحرف، ويُمتدَح فيُقال عنه (قاري كاتب)، أي يجيد قراءة القرآن، ويقرأ الرسالة التي قد تصل إلى أحد من أهل القرية، وليس في ذلك الجوّ ما يشجّع على التزوّد الثقافي، فالفلاّح سيكون ابنه فلاّحاً، حُكماً، وإذا ساعفه الحظّ فقد يكون (دَرَكيّاً/ شرطيّاً). في ذلك الجوّ كنتُ إذا وجدتُ في الشارع ورقة طيّرتْها الريح وألقت بها قريبة منّي أركض إليها، لأقرأ ما بقي فيها، وغالبا لا أفهم شيئاً منها.
كيف تشكّل ذلك الدّافع؟ أنا أجهل ذلك تماماً، ومن حُسن الأقدار أنّ والدي أرسلني إلى حمص للدراسة في مدارسها، فكانت مكتبة المدرسة الخالديّة الأهليّة تعطينا القصة يوم الخميس، لقاء عشرة قروش سوريّة على أن نعيدها صباح السبت، وكان ما كتبه كامل الكيلاني، لمثل ذلك السنّ، العمود الذي يسند ذلك البيت.
الآن تبدأ المشكلة التي أعاني منها، فقد كنتُ أقرأ، وأستمتع، وكم نقلتْني الكتب إلى عوالم الخيال، والحلم، والآفاق التي أشتاق لرؤيتها وأنا لم أعرفها من قبل، ولكنّني بعد فترة ليست بالطويلة أتفقّد ما قرأته فأراه قد غادر الذاكرة، ولم يبق فيها إلاّ بعض الحوصلات العامّة التي كانت مهاد التشكّل الفكري الذي لابدّ أن يُرافق كلّ مَن رافق الكتاب.
قرأتُ الكثير من الرّوايات، والقصص، وكتب الأدب، وسافرتُ طولا وعرضا في التّراث العربي الإسلامي، وفيما توفّر لديّ من كتب مترجمة، وكنتُ في كلّ مرّة أجد نفسي وقد أخذتني أمواج تلك الكتابة، وسافرتُ فيها، وسافرتْ بي، وسُعِدْتُ بالكثير ممّا قرأت، ولكنّني حين أعود لتذكّر أحداث تلك الرواية التي أسهرتْني حتى الصباح، مُتعة، وشغفاً، وألَقاً، قد لا أجد إلاّ العنوان، ونتفة من هنا، وأخرى من هناك، فأشعر بالحرج والنقص، وربّما كان لهذا فائدة واحدة هي أنّني أستطيع العودة إلى بعض ما قرأت فأستعيده على مهل، وبلذّة وشغَف، ولكنّ هذا لا يُلغي ذلك النقص.
في بعض جلسات المراجعة لنواقصي الكثيرة، هُيِّئَ لي أنني وجدت بعض ما يُعزّي في الجواب، وهو أنّ قوّة الذاكرة أكثر من يحتاجها (النّاقد) المتتبّع، الذي يُكمل قوْعدة أفكاره، واستشهاداته، بما قرّ في ذاكرته القويّة، أمّا الشاعر، ولا أعني كلّ الشعراء، أعني مَن أنا مثلهم، فقد يكفيه التكثيف، واللّمح، والابتكار، وأن يقدّم قصيدة توقظ تلك المشاعر في الأعماق، وتُهيج فيها الأريحيّة، والحنين.
يبدو أنّ الشاعر الذي في داخلي قد أخلى المكان من كل ما قد يثير الشغب عليه، بل مدّ سيطرته على كيف أتعامل مع معظم الأمور، فكنتُ فيها شاعرا قبل أيّ شيء آخر، ولست أروّج لشاعريتي، ولا أزكّيها، وإنّما أنا هنا مجرّد واصف، ومثل هذه الرؤيا، أو قل (الحالة)، حين تسيطر، فإنّني أجزم أنّها تسلب من حاملها بقيّة الصفات الأخرى، ولا تقبل بدلا بذلك، وأرجّح أنّ الشاعر، أو لِنقل المبدع بعامّة، حين يكون من هذا الصّنف فإنّه نادرا ما يحقّق النّجاح في المسؤوليات التي يُعهَد بها إليه، لاسيّما إذا كانت مسؤوليّة ذات شأن عام، ولذا فأنا أقترح أن يُختار للمبدع مكان تُحفَظ فيه كرامته، وخبزه قبل كلّ شيء، وأن لا يُستهلك في مواقع تجوّفه، أو تدفعه للملق، أو لأيّ شكل من أشكال الانحراف.
تُرى أهي نعمة أم نقمة؟!..
aaalnaem@gmail.com