ذلك المساء الطويل (1)
د. نضال الصالح
بينما جُمان تتعثّر بحصى الحكاية كنتُ أدفع عن روحي صهيل حرائق لا يمكن لمحيطات أن تطفئ نيرانها: حرائق السحر الذي يفيض من تفاصيل وجهها كلّه، وحرائق الحكاية التي لا يمكن لقلب، مهما أوتي من قسوة الصخر، احتمال جمرها الذي كانت جمان تمشي بقدمين حافيتين فوق لهيبه الغاشم، بل المجنون. وكنت، وأنا مأخوذ بالسحر، أردّد لنفسي: أيّ فتنة هذه التي منحتها السماء لهذه الجُمان التي تغار النساء كلّهن من سحرها الاستثناء! وجه مدوّر كاستدارة قمر في تمامه، وعينان واسعتان يتوسط أبيضهما كوكبان يربكان الناظر إليهما في تحديد لونهما، الأخضر أم الأزرق أم لون العسل المصفّى، وخدّان يتوهجان بحُمرة شفيفة كأنّ الله شاء أن يكون الدرّاق، قبل اكتماله، بلونهما، وشفتان… و.. ثمّ أتابع الحكاية كمن يصغي إلى ترتيل ينهمر من سماء تخصّه وحده، وروحي تحدّث روحي أن أرجوكِ يا جُمان توقّفي عن الحكاية، توقّفي أرجوك، فقلبي لا يحتمل هذا النشيج كلّه في صوتك الذي يضجّ بغير حزن، بل بما يشبه أحزان مدينة من النساء.
قبل أقلّ من ثماني سنوات بشهرين، أي بعد أيّام قليلة من الأحداث التي عصفت بالمدينة، أعني مدينتي درعا التي تنتمي أسرتي إليها منذ مئات السنين، بل منذ كانت درعا، ولم تكد الأحداث تبدأ، حتى طلب أبي إليّ الاتصال بشقيقيّ المتزوجين، ودعوتهما إلى المنزل مساء، للحديث في أمر لا يحتمل التأجيل، بل لأنّ تأجيله أو تأخيره ليس لمصلحة أحد من أفراد الأسرة جميعاً كما قال. وفي المساء، ولم يكد شمل الأسرة يلتئم، حتى فتحنا آذاننا على آخرها، وكلّ منّا يحدس بشيء يعني واحداً منّا ويعنينا جميعاً معه.
مغادرة البلد، وبأسرع ما يمكن من الوقت، وليكن في الصباح. بذلك ختم أبي حديثه عما شهدته المدينة من أحداث، ولاسيما جامع العمري، وأضاف: وما يتربّص بالمدينة، بل بالبلد كلّه، ما لا يمكن لأحد أن يتوقّع أو يتخيّل أن يكون، فثمة ما تمّ التخطيط له منذ سنوات لتدمير كلّ شيء.
كنت الوحيدة لأبويّ بعد سنوات من يباس رحم أمي التي كانت أنجبت ولدين قبل أن أضيء عينيها، كما كانت تردد. ولدت بعد ولادة الثاني بخمس عشرة سنة، ولذلك كنت، بالنسبة إلى شقيقيّ طفلتهما المدللة كما كنت طفلة أبويّ، وكبرت وترعرعت وأنا لا أعرف من الحياة سوى وجهها الأبيض، كما تصف أمي، حتى ذلك المساء قبل أقلّ من ثماني سنوات بشهرين.
لم يكن أحد في الأسرة يعصي لأبي أمراً، حتى أمي نفسها، ابنة أحد أكبر عشائر حوران، كانت تعتقد بأنّ أي كلمة منه وحيٌ من السماء، وعلى الأسرة جميعاً الإيمان بكلّ حرف منها، بل تقديسه. وحده أخي فيصل، الأول للأسرة، والذي كان بلغ في الخامس من شهر ذلك المساء عامه الثلاثين، قال: أنا لن أغادر البلد. وأضاف وهو يطرق رأسه في الأرض لأنه لم يكن يجرؤ على النظر في عيني أبي: أيام قليلة وينتهي كلّ شيء…. (يتبع).