دراساتصحيفة البعث

الصين.. نحو قمّة الهرم الاقتصادي في العالم

د. معن منيف سليمان
حقّق الاقتصاد الصيني نموّاً ملحوظاً، وتفوّق على النسبة التي حدّدتها الحكومة للنمو، حيث حافظ على استقراره خلال الأعوام المنصرمة، وجاء هذا الأداء الإيجابي نتيجة الترويج الحكومي للإصلاحات المتعلّقة بجانب العرض والإمداد وتطوير حوافز نمو جديدة، بالإضافة إلى الامتناع عن إغراق الاقتصاد بردود فعل قوية، وكان النمو الاقتصادي الصيني الذي أصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأمريكي، خلال عام 2016، بلغ 6.7 بالمئة. والتزمت الصين بالتنمية النوعية، بما فيها خلق بنية وهيكلية اقتصادية سليمة وصحية في إطار بيئة أفضل، بدلاً من التركيز على النمو الاقتصادي فقط، وحققت مبيعات التجزئة للبضائع الاستهلاكية نموّاً ملحوظاً، وسجّلت أرقاماً قياسية لتصبح أسرع الاقتصاديات نموّاً في العالم، وأكّدت الدراسات المتخصصة، أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030م.
كان للعوامل التنظيمية دوراً مهمّاً في تقدّم الاقتصاد الصيني، فخلال مرحلة البناء الاشتراكي بزعامة “ماوتسي تونغ” (1949ـ 1976) اتخذت الدولة الصينية عدّة إجراءات، من أبرزها تأميم وسائل الإنتاج، وإعادة تنظيم الفلاحة في إطار التعاونيات الكبرى التي عرفت باسم “الكومونات الشعبية”، وإعطاء الأولوية في البداية للصناعات الأساسية والتجهيزية قبل إقرار ما عرف باسم “المشي على قدمين” أي خلق توازن بين الفلاحة والصناعة، ثم نهج سياسة القفزة الكبرى إلى الأمام التي استهدفت تحقيق الإقلاع الاقتصادي بتعميم الصناعة في المدن والبوادي، والاعتماد على الطاقة البشرية وإنجاز الأشغال الكبرى كالسدود وشبكة المواصلات.
بدأت الصين الإصلاحات الاقتصادية في عهد الرئيس الراحل “دينغ شياوبينغ”، عام 1978، التي استمرّت على مدى عقد كامل عند نسبة نمو 10 بالمئة سنوياً، منتشلة أكثر من 800 مليون نسمة من الفقر.
وفي عهد الرئيس ” شي جين بينغ ” أخذت الدول الصينية تخطّط لدخول “مرحلة جديدة” في العقود الثلاثة المقبلة حتى عام 2050. ورسمت قيادتها خطّة طموحة لنمو الاقتصاد الصيني، وتستهدف تحوّل الصين إلى اقتصاد متطوّر على قمّة الهرم الاقتصادي في العالم، عبر بناء طبقة وسطى عريضة وخفض فوارق الثروة بين المواطنين، مع تنمية “القوّة الناعمة” الصينية. لتصبح الصين دولة قيادية في العالم من حيث النفوذ والثروة، وذلك من خلال القضاء على الفساد المالي، وسط استمرار نهج الانفتاح الاقتصادي والمالي.
أبدت القيادة الصينية أكثر مرونة وجرأة خلال الآونة الأخيرة، فقد كشفت الصين عن مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في نحو ثلاثة عقود تضمّنت تحرير الأسواق بصورة أكبر لتعزيز استقرار ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأسهمت هذه التغييرات الكبيرة في تبديد الشكوك إزاء رغبة القيادة في الإصلاحات الضرورية لإعطاء الاقتصاد دفعة جديدة بعدما بدأت تظهر مؤشرات على تباطؤ النمو السريع الذي استمرّ على مدى ثلاثة عقود.
إن استراتيجية القيادة الصينية تستهدف الاستمرار في بناء اقتصاد مختلط يزاوج بين الانفتاح الاقتصادي وتحرير أسواق المال والاستثمار، مع الاحتفاظ بالتخطيط المركزي في توجيه قوى الاقتصاد الكلّي. كما تتبنّى على الصعيد الخارجي استراتيجية عولمة التجارة والاقتصاد في مقابل استراتيجية “الانعزالية وأميركا أولاً” التي ينتهجها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.
وعلى الرغم من التحديات السياسية، فقد حقّقت القيادة سلسلة من النجاحات الاقتصادية، سواء على صعيد النمو الاقتصادي أو تعزيز مركز “اليوان” في التجارة الدولية، وكعملة احتياط في البنوك المركزية أو التوسع الذي شهده الاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة، وبلغ أكثر من ثلاثة تريليونات دولار.
وعلى الصعيد التجاري والاقتصادي العالمي، تعمل القيادة الصينية، بالتعاون مع روسيا ودول الاقتصاديات الناشئة، على بناء “نظام عالمي جديد”، يحلّ تدريجياً محلّ النظام المالي والنقدي العالمي القائم حالياً على الدولار وسوق “وول ستريت”. فهي تنشئ بنوكاً شبيهة بالبنك الدولي وصندوق النقد، وتشكّل تحالفات مع القوى الاقتصادية المؤثّرة في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مثل مجموعة “بريكس”، كما تتوسّع تجارياً في أسواق العالم عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي يخطّط لإنفاق أربعة تريليونات عليها خلال السنوات المقبلة. كما تتفاوض الصين منذ مدّة لتوقيع اتفاقية تجارية مع كتلة الاتحاد الأوروبي.
وبناءً على ذلك أكملت الصين نظام التحويل الفوري بين اليوان والروبل دون المرور بنظام “سويفت” أو عملة أخرى في تسوية الصفقات التجارية والمالية بينها وبين روسيا. وأقنعت دولة أنغولا ببيع نفطها باليوان، كما تجري فنزويلا تسعير صفقات النفط هي الأخرى باليوان الصيني. وتنطلق القيادة الصينية في تنفيذ هذا المخطّط من قوة الصين التجارية وشبكة نفوذها في الأسواق العالمية والاحتياطي المالي الضخم المتوفّر لها.
ومن بين الخطط الرئيسة في بناء النظام النقدي والتجاري الجديد غير القائم على سيطرة الدولار الأمريكي، أسّست الصين بورصة للمتاجرة في الذهب باليوان الصيني. كما تخطّط لإنشاء بورصة للمتاجرة في النفط باليوان المدعوم بالذهب، أي أن الصفقات المستقبلية في عقود النفط يمكن تحويل قيمتها إلى ذهب.
وشهد السوق الرقمي في الصين توسّعاً في السنوات الأخيرة نظراً لازدهار التجارة الرقمية واستخدام تطبيقات الهواتف الذكية من أجل القيام بعدد كبير من الأنشطة اليومية بدءاً من طلب الطعام إلى سيارة الأجرة والرسائل والألعاب الإلكترونية.
وتؤكّد الصين إن الاقتصاد الرقمي يشكّل ثلث إجمالي ناتجها الداخلي وفق تقرير صدر خلال المؤتمر العالمي الرابع للانترنت في مدينة ووزن في شرق البلاد، واغتنمته الحكومة لتعلن إن الفضاء الافتراضي لديها “مفتوح” مع التشديد على ضرورة فرض رقابة على الانترنت، ويفيد التقرير الذي نشرته الأكاديمية الصينية لدراسات الانترنت أن الاقتصاد الرقمي الصيني بلغ 22,58 تريليون يوان (3,4 تريليون دولار) في عام 2016، وهذا يجعله ثانياً بعد الاقتصاد الرقمي الأميركي، ويعد وفق التقرير 30,3 بالمئة من مجمل الاقتصاد الصيني، ويقيّم التقرير تطور الانترنت عالمياً بناءً على عدّة عوامل بينها قدرات القطاع و”الحوكمة”، وهي العبارة التي تستخدمها الصين للدلالة على القيود التي تفرضها على الفضاء.
وتعتزم الصين إعفاء الشركات الأجنبية بصورة مؤقتة من الضريبة على الأرباح التي يعاد استثمارها في البلاد، على أمل النجاح في تشجيع هذه الشركات على البقاء فيها في مواجهة التخفيضات الضريبية الكبرى التي أقرّتها الولايات المتحدة. وقال متحدّث باسم وزارة المالية الصينية إن الإعفاء المؤقت: “سيخلق مناخ استثمار أفضل للمستثمرين الأجانب ويشجّع المستثمرين الأجانب على الاحتفاظ باستثماراتهم في الصين”، ويأتي الإعلان الصيني فيما تسعى الصين بقوة لمكافحة هروب رؤوس الأموال، وتشديد الرقابة على رؤوس الأموال لتحفيز تدفق الأموال.
وفي هذا السياق، أصدرت الصين تعليمات جديدة تضبط استحواذ الشركات الصينية على شركات في الخارج في إطار سعيها إلى خفض الاستثمار في شركات معينة بذاتها، والأحكام الجديدة تضاف إلى أحكام سابقة هدفها خفض خروج الرساميل الذي تشهده الصين منذ سنوات ويخشى المشرّعون أن يهدّد الاستقرار المالي لديها.
وأشارت الدراسات المتخصصة، على التوقعات الاقتصادية للسنوات الـ12 المقبلة، وشملت 75 دولة حول العالم، أنّه في غضون عشر سنوات، ستسيطر اقتصاديات الصين والهند على الغرب، وستؤثّر على قراراتها، حيث تصبح اقتصاديات العالم الناشئ ككل أكبر من اقتصاديات العالم المتقدّم.
وذكر بنك “إتش إس بي سي” في الدراسة، أن الصين ستظلّ أكبر مساهم في النمو العالمي خلال السنوات العشر المقبلة، حيث من المتوقع أن تسهم البلاد في سبعين بالمئة من التوسع العالمي بحلول عام2020.
لقد أصبحت الصين محرّكاً مهمّاً لاستقرار وانتعاش الاقتصاد العالمي، ووصل معدّل مساهمة الصين في النمو الاقتصادي إلى نحو ثلاثين بالمئة، وأكدت دراسة أجراها بنك “إتش إس بي سي” العالمي، أن الصين ستتفوق على الولايات المتّحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، بإجمالي ناتج محلي سيبلغ 26 تريليون دولار، صعوداً من 14.1 تريليون دولار حالياً.
إن عوامل طبيعية تحكّمت في الاقتصاد الصيني، وكانت من جملة الأسباب التي أسهمت في النمو السريع لاقتصاد الصين لعل أبرزها: التنوع الطبيعي والجغرافي، وامتلاك الصين رصيداً مهمّاً من مصادر الطاقة والمعادن، فتساهم الصين بحصص مرتفعة من الإنتاج العالمي لمصادر الطاقة كالفحم الحجري والنفط والغاز الطبيعي ولمجموعة من المعادن، كالحديد والزنك والرصاص والفوسفات محتلّة بذلك المراتب الأولى عالمياً.
وتضمّ الصين أيضاً أكبر تجمع سكاني في العالم، فقد بلغ عدد سكانها 1.39 مليار نسمة، ويفسّر ذلك بالتعمير السكاني القديم وبمعدل التكاثر الطبيعي الذي ظل مرتفعاً إلى غاية العقد السادس من القرن العشرين، ما أتاح وفرة اليد العاملة والسوق الاستهلاكية.
وساعد البحث العلمي والتكنولوجي على تقدّم الصين، فقد اهتمّت الصين بنشر التعليم وتكييفه مع متطلبات العصر. ورفعت من نفقات البحت العلمي والتكنولوجي. فكوّنت عدداً ضخماً من التقنيين والمهندسين. كما عملت على تقليد أو شراء براءات الاختراع الأجنبية. وأبرمت اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات في هذا المجال مع الدول المتقدّمة.
كل ذلك أسهم في صعود الصين إلى المرتبة الأولى تجاريّاً في العالم، وبات الاقتصاد الصيني يمثّل منافساً خطيراً لاقتصاديات الدول المتقدّمة، ويسير بخطى ثابتة نحو قمّة الهرم الاقتصادي في العالم.