“بوركيني”.. شبهة التواطؤ بين البطلة ومبدعتها؟!
ربما لم تتوقع صاحبة رواية “بوركيني” أن يلقى أول أعمالها ردود أفعال متناقضة لم تتوقف منذ صدورها قبل أربعة أعوام من الآن، ذلك أنها تمكنت وبكثير من الدقة أن تغوص وترسم، ليس تفاصيل حياة بنات جنسها فقط وإنما رسمت تفاصيل أجسادهن في لوحاتها التي كانت تعدّها لمعرضها القادم، حيث تتماهى الكاتبة مع الراوية والبطلة لدرجة كبيرة، وتطلق أسئلتها على لسانها.
أثر الجَدّة
تحكي الرواية قصة فنانة تشكيلية اختارت بكامل إرادتها أن ترتدي غطاء الرأس، وقد سكنت صورة جدتها في مخيلتها “كطائر جميل، كانت تقوم وتقعد فتتطاير ملابسها الفضفاضة وكأنها جناحا حمامة بيضاء تعلو وتغط، كنت أنظر إليها فأراها مشغولة عني، مشغولة بتمتمة لا أفهم معناها ولا سببها”.
ليست الراوية البطلة فتاة عادية، هي فتاة مثقفة لعائلة تهتم بها وبشقيقتيها وتعليمهن لدرجة كبيرة، تاركين لهن حرية القرارات الهامة: “لا أعرف إن كنت ورثت إيمان جدتي أم اكتسبته، ولا أدري إن كان ما فعلته هو نتيجة إيمان حقيقي أم لا ففي العشرين من عمري تقريباً، اتخذت أصعب قرار في حياتي، ذلك القرار لم يلق رضا أهلي ولا أصحابي. لماذا؟ من أين أتيت بكل هذه القوة؟ يسألونني- الطريق إلى الله سهلة ولا تحتاج إلى قوة. التقرب إلى الله يولد معنا بالفطرة، ولا يحتاج إلى منّة. هذا ماكنت أشعر به دائماً.
الفصام
لكن الفتاة سوف تعيش صراعاً وجودياً يقض مضجعها، وقد أقرّت في اعترافاتها أنها لم تكن على يقين من أن الإيمان هو ما يقف خلف قرارها، وسوف تتعبها هواجسها الداخلية المقلقة، ويبدأ صراعها يتفاقم بين ما تبدو عليه وبين أفكارها المتحررة: “أنا أعيش فعلاً بين عالمين.. بين ملابسي المحتشمة وأفكاري المتحررة.. بين حجاب رأس يغطيني وأجساد عارية تستهويني.. فتيات ونساء يتجاورن، لا يخجلن بعريهن وكأنهن يعرفن أنّ هذا المكان لهنّ. ربما يتهامسن، لكنني لا أسمع سوى صوت الصمت. لا أدري إن كانت أذناي قد صُمتّا كما كلّ شيء فيّ. الموسيقى الهادئة التي كنت أسمعها قبل أن أغرق في غفوتي صمتت هي أيضا” تلك الأجساد التي تملأ مساحات لوحاتها “رسم الأجساد صار وحده الجسر الذي يصلني بالعالم، وبذاتي، هكذا أصبح الرسم هو حضور الجسد وغيابه في آن واحد، الجسد صار وحده يلهمني، يغريني.. صرت أرى الأجساد كما اللّغات، لكل منها جمالياتها وقواعدها وخطوطها واستثناءاتها” ولعل في الأمر انعكاساً لتمردٍ يسكنها وتجسيداً لهواجسها ورغائبها وبيئتها ولعائلةٍ الأب فيها عاشق للموسيقى والأم سيدة عاملة ومثقفة وراقية وأختين تكتبان الشعر أو تعزفان على البيانو، بينما خطيبها زوج المستقبل المحامي الذي كانت تحلم أن تسمع منه عبارة أندريه بريتون وهو يقول لحبيبته: “أنت جميلة مثل كارثة” لكن علاقتها به تتجه إلى حافة الانهيار حين يقودها لقاء مفاجئ مع حبيبته الأولى، الفتاة العصرية المتحررة التي تناقضها في كل شيء، إلى استنفار كل أفكارها، وانفجار مشاعرها المكبوتة والدخول في حال من الصراع يلامس حدود التمرد والانقلاب على أهم قرار اتخذته في حياتها: “لم أكن أرى نفسي أقل من الأخريات، بل كنت أستشعر قوتي أمامهن، أحس أنني أقوى منهن لأنني أنا امرأتان.. أحياناً كانت التناقضات التي أعيشها في حياتي تقلقني، لكن الأمور لم تصل بي قبل هذه المرأة، إلى أن أحس بأنني منفية إلى هذا الحد في عالمي اللّامرئي، إنها هي، هي وحدها من أيقظني من غفوتي لأكتشف ببساطة أنني لست أنا، وأحس بالبؤس جراء ذلك”.
لا يمتد الزمن بالحكاية طويلاً فهي تدور عبر الأيام القليلة التي تسبق معرضها التشكيلي قبل أسبوع منه بالتحديد، هكذا ستبدو تلك الأيام ضاغطة إلى مداها الأقصى، ممتلئة بالمشاعر المتناقضة تتقلب فيها البطلة بين الماضي والحاضر، وتعيش فصاماً بين ما يتوجب عليها وبين ما تود أن تكونه، فتلامس الكاتبة عبر حواراتها الداخلية أكثر من ثيمة وتقارب مواجعها هي تلك التي تتعلق بالجسد، الدين، وبالمجتمع من حولها، بالحبّ، بالفنّ، والغيرة فتكون حكايتها حكاية الأنثى في صراعها ما بين شخصية تظهر بها أمام الناس وأخرى تمثل الجنون والتمرد والثورة على كل ما هو مفروض عليها وتحاول كسر الصورة المنمطة عنها كأنثى تنتمي إلى بيئة محددة: “هذه أنا. وهكذا أعيش أيامي بقلبين، بجسدين، بروحين. هي حياة امرأتين… نعم، هذه أنا” “امرأتان تتقاسمانني. عندما أملّ أحداهما، أقتلها وأتمسك بالأخرى. أيّ امرأة أنا؟ المحجّبة الغامضة أم الفنانة المتحرّرة”؟.
زيف متخفٍ
لا يمكن للجدال الذي دار حول الشخصية التي سكنت الرواية أن يتوقف على ما قدمته صاحبة الرواية، وقد لامست في حكايتها إشكالية هامة هي إشكالية الحرية الشخصية وسط العديد من المفارقات الوجودية، عن قيمتها كامرأة بغض النظر عن جسدها، والضياع الذي ينتهي بها إلى مسالك لا تدري نهايتها “إننا نتوغل في الظلمة بين الأشجار، وكأننا نسير في نفق، نسير معاً، ولكن لا أدري إلى أين” وبأسلوب بسيط ولغة سلسة لا تعقيد ولا تكلف فيها وبحساسية بالغة؛ نقلت أفكارها حول عدد من القضايا الهامة التي ترتبط بها، وتكشف الزيف الذي يتغطى بغطاء الدين والتحرر على السواء، ربما تبدو الحكاية تتعلق بشخص واحد نوعاً ما لكنها بشكل أو بآخر هي صورة عن مرحلة صعبة بأكملها نعيش تبعاتها التي تتجاوز الفرد، إلى شريحة كبيرة من هذا الجيل، شريحة تعاني انشطاراً أو انفصاماً في نظرتها إلى هويتها وانتمائها، إلى مجتمعات بأكملها تتخبط بين هذا الطوفان من الانفتاح الثقافي والتكنولوجي والتطور العلمي والعملي التي لا يمكن الوقوف في وجهها، وبين فعل الردّات الدينية وحركات الانغلاق الطائفي والثقافي، وهو ما أشارت إليه صاحبة الرواية حين اختارت “بوركيني” اسماً لأول أعمالها الأدبية.
بشرى الحكيم