“رؤى” لابتسام العيسى.. تراتيل بتوقيع الحرب
في رواية “رؤى” للدكتورة ابتسام العيسى الصادرة حديثا عن دار الينابيع في دمشق، نحن أمام عمل روائي إنساني شفاف وشيق يؤرخ للحرب بطريقة فيها من الصدق في ابتكار شخصيات روائية منسولة من واقع الحرب، وماخلفته الهجرة التي ليست لهم. بطلة الرواية رؤى يتم ندبها إلى ايطاليا للعمل كمديرة لمكتب منظمة الأغذية والزراعة التابع للأمم المتحدة في العاصمة روما.
وقفت رؤى في آخر الطابور الممتد أمام ميزان الأمتعة في المطار، لتأخذ دورها من أجل تسليم الحقائب والحصول على بطاقة الصعود إلى الطائرة (البوينغ) دموعها السخية لم تزل تنهمر من عينيها بصمت يختزل تاريخ حزن عاشرته عمراً. نظرتها تأبى أنها أجبرت على السفر، أو ربما فارقت أحبة لا تطيق بعادهم، تخطو خطوة إلى الأمام ثم لا تلبث أن تتراجع خطوتين إلى الوراء، تتيح المجال لأخذ دورها، ثم تتقدم من جديد، كأن أحداً يدفعها بيده من الخلف، وصوتاً يأمرها بالسفر: (تقدمي لا تنظري خلفك، فرصتك الكبيرة قد حانت، وجاء موعد تحقيق الحلم الذي حلمت به طويلا.) اندفعت بكليتها، وحسمت أمرها وقررت الخروج من قمقمها إلى العالم الواسع متخطية حدود التردد في قراراتها، التي مافتئ شريكها جادا في إبطالها ص 11.
نحن أمام عمل روائي يصوغ حكاية امرأة سورية في الخمسين من عمرها، هي رؤى الموسومة الرواية باسمها، مهندسة زراعية وأم لستة أولاد، هم ثمرة زواج تقليدي، مع مرور الزمن تصاب الحالة الزوجية بالبرود والروتين، ومع أنوثتها تفتح للحياة نافذة ثانية تطل منها على عالم يصور تصارع الذات النفسية التي تتشظى ومن ثم تلتحم، وتحزن كثيرا تندم وتحزن وفي لحظات كثيرة تتحول إلى فراشة سعيدة، على وجه الخصوص في لقائها مع نبيل القطناوي، حيث تبدأ قصة حب من نوع مختلف.
(اقتربنا منه وقدمتها له: رؤى السعيد. أهلا تشرفنا. مدت يدها الناشفة بثقة، منحتها حجما أكبر من حقيقتها، وأخذت تتفرس قسمات وجهه، فيختنق صوته المرتعش نشوة، كأنما اكتشفت للتو مهابة حضوره المبهر، ثم يغوص صوته في أعماقها، فتلتقط رؤى الإشارة فور لمعانها، وتنتعش سحرا مولّدا موقعا في نفسها كوقع الماء في أرض عطشى. لحظات من الصمت سادت معظم فترة ذلك اللقاء، ثم مشيا يقصدان مقعدا يحلو البوح فوقه.) ص 34.
في البدايات تستخدم الروائية ابتسام العيسى، فخ التقاط القارئ، وهو حق مشروع لها، بغية استدراجه إلى لب الرواية، وفيما بعد سيدرك قارئ الرواية انه ليس ضحية لهذا الفخ الجميل، ولم يغرر به ولم يستدرج عنوة متابعة رحلة قراءة هذه الرواية الجميلة.
بالعودة إلى زمان وجغرافية الرواية، سنجد أن زمنها هو زمن الحرب على سورية، على حين أن جغرافية الرواية، واضحة فهي تبدأ من انطلاقتها من سورية،إلى إيطاليا حيث المكان الرئيس هو العاصمة روما ومن ثم بعض المدن الإيطالية، مثل مدينة (أوستيا)، ص 57، حين يتأجج جمر اللقاء بين رؤى ونبيل ويكون البوح هنا كدلالة على استمرار الزمن الروائي كمعادل يرتقي بسيرورة وصيرورة الزمن أفقيا لاكتمال الفعل الروائي الذي سيفضي إلى نهايات يرتقبها بكثير من الشغف القارئ اللماح. في رواية “رؤى” نحن أمام اشتغالات روائية فيها تقنيات وأدوات وتكنيك الرواية الحديثة، وأمام السرد الذي يسكب روحه كاشتغال مصاغ بعناية فائقة، يرتقي لمصاف روح النص الروائي الحديث. سنجد في الرواية تلك العنونات التي تنتمي إلى روح النص الروائي من حيث أن العنوان عتبة دالة ومدلول يمكن أن يساهم في الغوص أكثر في الاقتراب من وجدانية النص، وان لم يكن كذلك سنكون أكثر مقاربة من مقولة بيتر فايس: (خطأ ساد خطأ، بالكلمات لايمكن اختراق الجدار وإنما يمكن الإشارة إلى الجدار المراد اختراقه.) أرادت ونجحت الروائية بتقديم مفاتيح العنونات والمحاور الرئيسية لقارئها بكثير من العناية والمحبة والذكاء، بغية الحصول على عقد شراكة معه على اعتبار أنه شريك ذكي وفعّال مع مبدع النص الأدبي. اختارت ابتسام العيسى عناوين لفصول روايتها وهذا اشتغال تعتمده الرواية الحديثة من حيث التكنيك وتكثيف السرد، والبناء الدرامي لبنية النص ودمجه مع مدلولاته.
من عنونات الرواية على سبيل المثال (وداع الياسمين– ثرثرة قلوب عطشى– عزف على وتر مقطوع– عيون أجهدتها الغربة- الوطن يسكننا– مايزال في العمر شوطّ – صفحات بلا سطور– الخ. في النهاية وبعد عودتها لأسرتها وأولادها توجه رسالة لنبيل تقول: (نبيل، يامن طحنته الآلام وعجنته، وباتت زمرة دمه عشق الوطن، يامن كان نعم الأنيس، وجمعني معه عشق تعمّد بقدسية الانتماء لأرض سورية، لنا شرف لملمة الجراح، وكشف المستور، ونشر قضيّتنا على أوسع بقعة نطالها.) ص 184.
قدم للرواية الأديب والإعلامي حسن م. يوسف، وحمل غلافها الأخير جزءا من مقدمته عنها إذ يقول:
(ترصد الروائية ابتسام العيسى بطلتها “رؤى” في كل حالاتها، كما ترصد من يدورون في فلكها، وهي تفعل ذلك بواقعية وإقناع، غير أنها لاتخفي من صفحاتها الأولى أن هدفها ليس مجرد الإمتاع والتسلية، فهي كاتبة مشغولة بهموم الوطن والإنسان، ولاتكتفي بتصوير مجريات حياة بطلتها كما هي، بل تركز على أفكارها ومشاعرها أيضا، فترصد برهافة تمرد رؤى على نفسها وتغلبها على أنانيتها كما تقوم بتحليل أغوار نفوس شخصيات روايتها، وتعالج على ألسنتهم بعض الأفكار الفلسفية دون استغراق ولا إفراط.).
رواية (رؤى) للدكتورة ابتسام العيسى: دار الينابيع دمشق– 2019 تصميم الغلاف جيهان خير، تقع في 191 صفحة من القطع الكبير.
أحمد عساف