هرمن ودوروتيه
الشاعر والفيلسوف الألماني “غوته” الذي عرفه قرّاء العربية بكتابيه الشّهيرين “آلام فرتر” و”فاوست” سيتعرّفون عليه الآن من جديد من خلال قصّته الغنائيّة “هرمن ودوروتيه” ترجمة د. محمد عوض محمد، وتقديم د. “طه حسين” وهي تكاد تطغى على سابقاتها من حيث أهميّتها بالنسبة للكاتب الذي اعترف في نهايات عمره بأنّها نالتْ الرّضى في نفسه أكثر من كلّ قصصه الأخرى.
في الوقت الذي كانت فيه أفكار الثورة الفرنسيّة تغزو أوربا كلّها، ما ولّد شُعوراً بأنّ عصر السيادة للطبقة الوسطى التي ينتمي إليها أبطال غوته قد حل، وقد حاول في نسج قصّته هذه أن ينحو منحى الشاعر الألماني الحديث فوس الذي وضع قصّة شعريّة عن الحبّ هي قصّة “لويز” 1784م افتتن بها الألمان وتغنّوا بمناقبها،بمن فيهم غوته، فأراد تقليدها والسير على منوالها. أمّا المحاكاة الثانية التي أراد أن يتناغم مع إيقاع نسيجها الأسلوبي فكانت بإتباعه خطى الشعر الملحمي الهوميري نسبة لـ “هوميروس” الذي كان يتهيّب التّشبّه به وذلك لقناعته بانتهاء عصر الأبطال الإلهيّين والملاحم والفروسيّة والحوادث الأسطوريّة والزمن الخرافي، ولكن خشيته من تقليد هوميروس انكسرت بمجرّد إعلان العالم الألماني وولف أنّ هوميروس لا يمكن أن يكون لوحده، هو خالق الملحمتين الخالدتين الإلياذة، الأوذيسّة، رغم نبوغه، بل هما خلاصة تراكم وخبرات شعراء آخرين بقوا في الظلّ.
استطاع هوميروس بمقدرته الفنيّة العالية وحساسيّته الشّعريّة المميزة امتصاص أساليبهم وتوليفها بهذه الصّيغة البطوليّة المؤثرة على القارئ، التي لم يطلْها الوهن أو تفقد سلطتها في التّشويق والإقناع المطلوبين مع الزّمن. ولذلك اختار غوته شخصيّات قصّته من مهاجرين ألمان ُشرّدوا من أراضيهم المتاخمة لحدود فرنسا الثائرة، نتيجة ضغط أفكار الثورييّن الفرنسيين على منطقتهم، بعدما كانوا معزّزين مكرّمين في أرضهم، فاستقبلهم أناس من مدينة ألمانيّة أخرى بالكساء والطعام والمأوى. فـ “هرمن” بطل قصّتنا هو من المدينة التي استقبلتْ المعشوقة “دوروتيه” وقومَها المهجّرين. وهكذا استطاع غوته في قصّته هذه الدمج والتّوفيق بين النفس الألماني الحديث بمحاكاته للشاعر الألماني فوس وبين النفس الملحمي الهوميري الذي يتطلّب شروطاً وأصولاً غير موجودين في عصر غوته لكن استطاعته الوصول إلى هذه التّوليفة، لن تضمن له بالضّرورة تقبّل الجمهور وتذوّقه لها في الحياة الحديثة أواخر القرن الثامن عشر، ولكي يطمئنّ على نتائج عمله، عرضه على معاصره الشاعر شيلر الذي أبدى إعجابه بموهبة غوته وصياغته الفنيّة لهذه القصّة بطريقةٍ سلسة، لكن ثمّة عرقلة موضوعيّة واجهته، هي حاجة الشعر الملحمي الضّروريّة لخطر كبير يتهدّد حياة الأبطال والمجتمعات، هذا الخطر الذي سيمكّنه من شحذ الطاقة الجمعيّة للشعب واستنهاض هممه. ولقد وجد ضالّته هذه في توفير شرط الخطر الجسيم في شبح الثورة الفرنسيّة المخيّم بقوّة آنذاك على أوروبا، الذي استخدمه كإطار عام يغلّف به أحداث قصّته. ولعلّ تلخيص أجواء القصّة بهذا الشكل أقلّ ما يمكن القول فيه، أنّه سخيف كما يقول د. طه حسين كاتب المقدّمة. لأنّه تلخيص لا يُحيط بما في القصّة من جمال وبراعة، لكن ميزته تبقى، بأنّه كشف للقارئ، عن إمكانيّة نابغة كـ “غوته” اجتراح قصّة ملحميّة في زمنٍ مختلف، لا يشبه زمنها، وقد تُرجمتْ إلى كلّ لغات العالم الحيّة. رغم سذاجة أحداثها وطول جملها التفصيليّة. والملفت للانتباه بالنسبة إلينا، هو تشابه ما يجري في الحروب عموماً، بغضّ النظر عن المكان والزمان الذي تجري فيه الحوادث، والثقافة التي تحرّك وعي أبطال الأعمال المسرودة وما تخوضه من قصص عاطفيّة تتقاطع من حيث المضمون والشّكل مع قصص أبطال آخرين في بقاع جغرافيّة مختلفة، حيث تشفّ الأرواح العاشقة، وتصل إلى حالة من النّقاء العالي، كما ينضجُ الحبّ الشخصي ليغدو حبّاً للوطن والقضايا الكبرى. لكأنّ الخطر الشديد يحفّز ويقوي الروابط البشريّة الساعية نحو منابع العذوبة والجمال والخير. يقول “هرمن” العاشق، المندفع للدفاع عن الأرض، شارحاً حجم الخطر والصّراع النّفسي الذي يعانيه لأمّه، وهي تحاول ثنيه عما يفكّر فيه والتّفرّغ لإدارة أملاك أبيه التي تنتظر من يزيدها ويراكمها: (ولئن قيل أنّ نهر الرين بتيّاره المتدفّق يحمينا ويعصمنا فأيّ نهر وأيّ جبلٍ يستطيع أن يقينا بأس ذلك الشعب المخيف الذي يزحف علينا كأنّه الريح العاصفة ذات البروق والرعود.. انظري يا أمّاه إنّي قد قرّ رأيي، وصحّ عزمي على أن أبادر السّاعة، بل هذه اللحظة إلى ما أراه عدلاً وصواباً، فلا خير في تفكيرٍ طويل، قد لا يهدي إلى الرشد دائماً، ما من داعٍ إلى أن أعود إلى دارنا، بل أنطلق من هنا إلى المدينة رأساً، فأقدّم إلى الجند هذه الذّراع وهذا القلب من أجل خدمة الوطن).
أوس أحمد أسعد