الأعشاش.. داخل البيوت!
حسن حميد
سألني أحد القراء الكرام، ما الأعمال الأدبية التي تشبه كتابنا “ألف ليلة وليلة” وكيف تشبهه، وهل حقاً لكل شعب من شعوب الدنيا “ألف ليلة وليلة”؟! وللإجابة أقول، إن حضارات الدنيا كلها عرفت كتاباً أو كتباً دارت حولها فأخذت ما فيها، واغتنت بعلومها، واهتدت بقيمها، وجعلتها، لما فيها من قيمة، تراثاً لها. من هذه الكتب النايفة ذات الأهمية المضافة على الرغم من تعاقب الأزمنة وكرّها، كتاب “ألف ليلة وليلة” الإيطالية الذي وضعه جيوفاني بوكاشيو تحت عنوان “الديكاميرون” وهو يلي كتابنا “ألف ليلة وليلة” بحوالي قرن كامل، وقد استفاد منه وأخذ منه.
“الديكاميرون” كتاب ثقيل في موضوعاته، وبهّار في تقنياته، وحار في قولاته، وحقّاني في نظراته وهو يتحدث عن المرأة والرجل، والغني والفقير، والنبيل والوغد، والنفيس والخسيس، وشامل في جغرافيته، ومؤثر في بعده الإنساني. في الكتاب مئة قصة قصيرة، بعضها قصير لا يتجاوز الصفحتين، وبعضها طويل يزيد على عشر صفحات، ورواته عشرة، سبع بنات وثلاثة شبان، وزمنه منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وأحداثه تدور حول القيم الإنسانية بنبلها وخسيسها، وحول المرأة والرجل وتقلباتهما أمام مرايا الحياة.
وهو كتاب ينصف المرأة فيبدي إنسانيتها، وجمالها، وتعلقها بكل ما هو حيّ واجتماعي ومؤثث للحياة الأسرية بعيداً عن التقولات والرحم، والأفكار المسبقة. وقد صرّح جيوفاني بوكاشيو أنه يكتب هذا الكتاب تكفيراً عن خطله الوحشي الذي اقترفه بحق المرأة حين وضع كتابه (بوركاشيو) الذي جعل من المرأة حالاً شهوانية فحسب، وأنها مخلوق يشكو من عدم اكتمال النفائس الإنسانية فيه، فهي كائن تابع للرجل، ومفطورة على الغريزة، وعرضة للأهواء والغوايات، إلى آخر هذه المعزوفة التي أرادت الحط من شأن المرأة ومقدارها، كتاب “الديكاميرون” أنصف المرأة، وأعادها إلى مكانتها الطبيعية بوصفها فرداً بانياً للحياة، محباً للقيم السامية، والجمال الإلهي، عاشقاً للتعلم والثقافة والفنون، وله الشغف بالأحلام، والسعادة، وله الحرص على الكرامة والعفة والكبرياء، وهذه كلها هي التي أراد كتابنا “ألف ليلة وليلة” التوكيد عليها وتظهيرها بعد أن حافت المظلومية بالمرأة إلى حد إسقاطها في وهدات الدونية!
التكفير عن ما اقترفته يدا “بوكاشيو” كان سبباً من أسباب تأليف هذا الكتاب، ولكن هناك سبب آخر جوهري، وهو مغالبة وباء الطاعون “الموت الأسود” الذي اجتاح إيطاليا وأوروبا والشرق في تلك الفترة واستمر ربع قرن فحصد الناس إلى حد أن المقابر ما عادت تتسع للموتي، وأن التوابيت فقدت، وأن الجثث انتشرت في الشوارع، وأن الناس هربوا من أهاليهم الذين أصابهم الوباء، فنفرت الأم من ابنها، والأخت من أخيها، والأب من أسرته مخافة العدوى. كتاب “الديكاميرون” أراد أن يعيد بهجة الحياة إلى النفوس التي اكتوت بأذيات الطاعون، فيقص الرواة العشرة القصص التي لا تخلو من المرح والدعابة، كما لا تخلو من جماليات أخلاقيات الحياة، كل واحد منهم يقص عشر قصص في الليلة الواحدة، وهي قصص تبدي العادات والتقاليد الإيطالية التي تؤكد وحدة المجتمع، وسعادة الإنسان بالإنسان، وفطرة الاجتماع، والميل إلى قيم الحق والتعاون التسامح والبناء، ورؤية الجمال في النفس البشرية قبل رؤية قبحها!
“الديكاميرون” كتاب فيه بساطة الأسلوب، وروح الحكاية، وجماليات المرأة والرجل حين يحترم أحدهما الآخر، وحين يكون أحدهما وفياً مخلصاً للآخر، وفيه صورة الحياة في القرن الرابع عشر الذي بدأ يفتك حياة الناس من الهيمنات التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوربا، وهو أيضاً.. كتاب ما عاد يخص الطليان وحدهم، وإنما يخص البشرية كلها بعدما تسابقت لغات العالم بأجمعها إلى ترجمة هذا الكتاب ومعرفة ما فيه، وما فيه غنى على غنى يتجددان مع تجدد الحياة وترادف الأجيال، والشغف أن تصير القيم النبيلة طيوراً تبني أعشاشها داخل البيوت.
Hasanhamid55@yahoo.com