الانسحاب الأمريكي.. وقمة سوتشي
لا شك في أن التصريحات الأمريكية المتناقضة بشأن الانسحاب الأمريكي من سورية تعكس خلافات عميقة بين إدارة ترامب ومراكز القرار الأخرى في الدولة العميقة، لكنها لا تبدو مؤثرة تأثيراً كبيراً على قرار الرئيس.
فالانسحاب بدأ فعلياً مما يكذّب قول الـ “واشنطن بوست” إنه سهل بالقول لا بالفعل، والبيت الأبيض بات يتحدث عن أشهر قليلة لا تتجاوز نيسان المقبل لاستكماله، وفي كل الأحوال فلترامب أسبابه الوجيهة التي دفعته إلى هذا الخيار. وهنا فإن الأمر لا يقتصر على تنفيذ وعوده الانتخابية، بل يتعلق أيضاً بقراءة الأخطار الحقيقية التي تهدد القوات الأمريكية في ظل الإصرار السوري على التعامل معها كعدو محتل…
من هذا المنظور يبدو القرار إذاً نهائياً رغم كل الجعجعة الأمريكية المثارة حوله، لأن ثمن الانسحاب هو بكل بساطة أقل بكثير من ثمن البقاء.
على أنه من الطبيعي أن لا تعترف الإدارة الأمريكية بهزيمتها في سورية، وأن تربط الانسحاب باستكمال ما تسميه الانتصار على “داعش”! كما أكد ترامب بنفسه، وانتفاء الحاجة إلى بقاء القوات الأمريكية بعد ذلك، مع أن فلول هذا التنظيم الإرهابي الذي هزمه الجيش العربي السوري وحلفاؤه هي، كما كان التنظيم نفسه منذ إنشائه من قِبل المخابرات الأمريكية، أداة طيّعة في خدمة المشروع الأمريكي… وليس بعيداً عن هذا ما يُشاع عن ترتيبات أمريكية لما بعد الانسحاب تضمن مستقبل الحليف الكردي من جهة، وتسمح بتحقيق المنطقة الآمنة التي يحلم بها أردوغان من جهة أخرى، فما يُشاع بهذا الصدد شيء، وما يقوله الواقع شيء آخر تماماً.
واقعياً لا يترك الانسحاب خياراً أمام الطرف الكردي الذي اختار التحالف مع أمريكا سوى العودة إلى حضن الدولة السورية والتفاهم الجدّي معها، وواقعياً أيضاً لا تملك فكرة المنطقة الآمنة أي حظ من النجاح، وما عجز أردوغان عن تحقيقه في ذروة الهجمة الإرهابية التكفيرية على الدولة السورية، لن يستطيع تحقيقه بعد الانتصار المشهود الذي حققته هذه الدولة، وهنا تبرز أهمية القمة الثلاثية الروسية الإيرانية التركية المقبلة في سوتشي. فمن المرجّح أن تفرمل هذه القمة اندفاعات البهلوان التركي. ولا شك أن انعقادها في ظل تنفيذ الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سورية، وتعاظم الحاجة إلى إنهاء ملف إدلب بعد عدم إيفاء الطرف التركي بالتزاماته، وفي ظل التنسيق السياسي السوري الإيراني التي سبقها، سيجعلها قمة حاسمة لجهة التعجيل بمعالجة الملفات العالقة، وتفعيل المسار السياسي وفق ما تمليه المصلحة الوطنية السورية، وتقرره إرادة السوريين أولاً وأخيراً.
محمد كنايسي