دراساتصحيفة البعث

أمم متحدة من أجل العدالة كلمات بمناسبتي الثورة الإسلامية في إيران ومئوية إنشاء عصبة الأمم

 

د. جورج جبور
تكبر الأفكار الكبيرة حين تطلق في مناسبات كبيرة. هذا شأن ما أقوم به اليوم إذ أكتب تحت عنوان: “أمم متحدة من أجل العدالة”.
لا تعبر ببساطة في التاريخ الذكرى الأربعون لقيام ثورة إيران الإسلامية. هي ثورة أخلاق قبل كل شيء. قادها من حصته من الدنيا بقجة صغيرة من الثياب، محتجا، ومعه ملايين الفقراء، على بذخ امبراطوري يدعمه استكبار عالمي. ثم، وعلى مدى أربعين عاما، تستمر إحدى نقاط التوتر العظمى في العالم تلك المنازلة المستمرة المتصاعدة بين دولة آسيوية كانت متخلفة، وبين أكثر الدول تعملقاً في صناعة التقدم العلمي العالمي.
ولا ينبغي أن تعبر ببساطة الذكرى المئوية لمحاولة الدول – ربما لأول مرة في تاريخ العالم – بناء سلم دائم يقضي نهائيا على الحروب الكبرى. يذلك أشير إلى اجتماعات في فرنسا أعقبت الحرب العالمية الأولى بدأت أوائل عام 1919، ونتج عنها أوائل العام التالي مولد عصبة الأمم. ليست لدي القدرة على متابعة ما يجري بشأن هذه الذكرى المئوية، ولا أدري إن احتفت بالمناسبة الأمم المتحدة، إلا إنني لا أحب لمئوية بدء البحث في إنشاء منظمة دولية تمنع الحرب أن تنقضي دون أن تتنبه إلى أهميتها في ذاكرة محبي السلم، تلك الهيئة الوارثة لعصبة الأمم، وأعني بها منظمة الأمم المتحدة. وأحيي دمشق لأن هيئة ثقافية فيها فعلت.

المناسبتان كبيرتان
والفكرة الكبيرة التي يتقدم إليها العالم، ويحسن إطلاقها في هذه الآونة، واضحة جلية محددة المعالم، هي أن من المناسب إعلان المئوية الثانية للتنظيم السياسي العالمي “مئوية الأمم المتحدة من أجل العدالة”.
كان هم عصبة الأمم منع الحرب، ولم تنجح. بعد عشرين عاماً من بدء إنشاء العصبة نشبت ما عرف بالحرب العالمية الثانية التي أعطت الحرب العامة، التي نشبت عام 1914، صفتها الراهنة، فسميت “أولى”.
ونجحت الأمم المتحدة في حفظ العالم من حرب عالمية ثالثة نارية. أضفت صفة “النارية”، لأن العالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية إنما هو عالم حرب عالمية ثالثة، وإن لم تمتد النار إلى العالم كله.
لماذا لم ينجح التنظيمان الدوليان في حفظ العالم من الحرب حفظا كاملا؟ أحد أهم الأسباب إغفال بناء السلم على العدالة.
تولت عصبة الأمم تنظيم شؤون بلاد الشام إثر تفكك الامبراطورية العثمانية. لم تندلع حرب عالمية نتيجة ما أحدثته من تنظيم. نستطيع أن نزعم أن العصبة صانت السلم إلا أن العالم كله مازال يعاني من سوء التنظيم الذي لم يبن على أساس من العدالة.
ولنكن واضحين
تبنت العصبة، في حزيران 1922، صك الانتداب على فلسطين مضمنة إياه تصريح بلفور. لم تسأل مواطني بلاد الشام رأيهم في التصريح، ولا في صك الانتداب. تحول الانتداب إلى شركة استعمار استيطاني تابع عمل شركة جنوب افريقيا البريطانية وقائدها سيسيل رودس، بطل عالم الاستعمار والاستيطان، المرذول عالميا الآن حتى من جامعته، والذي تقتلع تماثيله من الدولتين اللتين كان له بهما المجد كله: جنوب افريقيا وزيمبابوي؛ وكانت الثانية تحمل اسمه في اسمها: جنوب روديسيا. أغفلت العصبة بناء السلم على العدالة، ولكن أحدا بعد قرن على صك الانتداب لا يستطيع أن ينكر أن قضية فلسطين ستستمر مصدرا للتوتر في العالم.
كذلك منحت العصبة لواء اسكندرون إلى تركيا. ولكن أحدا، بعد ثلثي القرن من تلك المعصية القانونية، لا يستطيع أن ينكر أن مسألة اللواء لها دورها المستمر في التوتر بين سورية وتركيا. ومن المفيد أن نذكر هنا أن فرنسا أقرت، عام 1990، وفي محاضر رسمية، بخطأ ما ارتكبته بشأن اللواء. كان ذلك شبه اعتذار قدمه دبلوماسي فرنسي رفيع إلى السيد الرئيس حافظ الأسد. ويصح استثمار شبه الاعتذار، وقد ورد ذكره في كتاب صدر مؤخرا لدبلوماسي فرنسي رفيع آخر.
تلكما جناياتان ارتكبتا على بلاد الشام، والأمثلة من العالم الواسع لا تحصى.
وأكتفي بمثل واحد أرجح أن صفته الجنائية تلقى إجماعا دوليا: هيروشيما وناغازاكي. لم تصدر عن الأمم المتحدة، حتى الآن، أية إدانة أخلاقية لما جرى في ذلك الآب اللاهب. كانت الأمم المتحدة مجتمعة في سان فرنسيسكو، بأمريكا، تصنع السلم، وكانت أمكنة أخرى في الدولة ذاتها تعمل على تصنيع سلاح ما عرفت البشرية حتى ذلك الوقت أقتل منه. وفي منتصف المدة، بين إنجاز سلمي مهم هو تبني الصيغة النهائية لميثاق الأمم المتحدة، وبين إنجاز سلمي مهم آخر، هو اكتمال التصديق على الميثاق، أي دخوله حيز التنفيذ، ارتكبت أمريكا أبشع عملية قتل جماعي في تاريخ العالم كله: عشرات، بل مئات، الآلاف في ساعات قليلة. صمتت الدول كلها التي اجتمعت لصياغة الميثاق المتسابقة على تصديقه. صمتت لدى ارتكاب الجناية. وصمتها مستمر منفردة ومجتمعة. ذلك ما أعلمه، وقد أكون مخطئا وأرحب بالتصحيح. بل إنني أذكر أن بعض الأمريكيين امتدح أسلوب الموت بالاشعاع الذري واصفا إياه بأنه “الموت السعيد”. وعلى نحو ما كتبت، في مقال نشرته جريدتا “البعث” و”الحياة”، زرت هيروشيما، ووددت لو أكون شاعرا لأصوغ في ملحمة ما سمعته ممن لايزالون من الضحايا على قيد الحياة. سجلت اعتذارا بصفتي أحد البشر. قرأت في السجل كلمة الرئيس كارتر. لم تتضمن كلمة اعتذار. خان أكثر رؤساء أمريكا ارتباطا بالأخلاق، خانه حس الاعتذار. وأتسامح معه رغم ذلك. لقد نشر كتابا يصف “إسرائيل”، بدءا من عنوانه، بأنها كيان تفرقة عنصرية “ابارتايد”.
يطول الحديث ولا ينتهي في الجنايات التي ارتكبتها العصبة، والتي ارتكبتها ولاتزال الأمم المتحدة، إلا أن السلم المبني على جناية ليس سلما.
في العربية قول مأثور حبذا لو يجعل القادة العرب مكانه في عقولهم وقلوبهم، كما في مكاتبهم: “العدل أساس الملك”.
وعلى غراره أقول: “العدل أساس السلم”.
كيف نتابع العدل في عالمنا الصعب المنهك بالمظالم؟ لا ننظر إلى إخماد النار بل إلى السبب الكامن وراء اشتعالها. نعالج السبب بروح العدل. العدل كله صعب بلوغه إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه، وإن بقي من الواجب إدراك الكل أن منظمة الأمم المتحدة تجربة جيدة في حالات عديدة، وتتفاوت أجهزتها في درجة الجودة. أجودها محكمة العدل الدولية، ليس فقط لأن الدول ترشح من ترشحه لعضويتها من مواطنيها من كان الأفضل للمنصب، بل أيضا لأن مدة العضوية طويلة نسبيا. تلك ملاحظة عابرة في هذا المقال، ولكتها ليست عابرة. أدعو الأمم المتحدة إلى “تطويل” مدة خبرائها، ولاسيما منهم المعنيون بالعدالة، تطويلا معتدلا طبعا، فلا ينشغلون بهم بتشديد الميم مطاردة ولاية جديدة. تنشغل الأمم المتحدة بالعدالة على نحو متصاعد. ذلك أمر لا يجوز إنكاره.
الفكرة الكبيرة هنا (بناء السلم على أساس العدل) ليست جديدة، وليست منسية. المتعاطفون معها الناس كلهم أو غالبيتهم، أما المستطيعون التنفيذ فقلة أو ندرة.
يبقى أن علينا تذكر تلك الفكرة الكبيرة طيلة عام 2019، إذ هو عام مئوية ولادة عصبة الأمم. ولننطق بكلمة سر وسحر: “فلتكن المئوية الثانية للتنظيم الدولي بحثا عن العدالة”.
ويبقى أن علينا تذكرها، خاصة في النصف الاول من شهر شباط، إذ فيه اتجه صاحب البقجة الصغيرة من مكان بعيد ليصنع مجدا للمستضعفين.
ولو كان لذلك الصاحب أن يصوغ كلمة السر والسحر، فلربما صاغها كما يلي: “فلتكن المئوية الثانية للتنظيم الدولي جهدا لإقامة حلف الفضول، أشرف حلف كان قط”.
drjabbour@gmail.com
دمشق في 7 شباط 2019