الصفحة الاولىصحيفة البعث

مدارس في تونس لتفريخ وتصدير الإرهاب

 

تونس- البعث- محمد بوعود:
أدى الكشف عن مدرسة قرآنية غريبة الأطوار في ضواحي مدينة الرقاب (وسط تونس) إلى تداعي عديد المدارس المماثلة لها، واكتشاف شبكة كبيرة من المدارس المماثلة، والتي تُعتبر بكل المقاييس بؤراً لتفريخ الإرهاب وتعليم الناشئة مبادئ العنف والحقد على المجتمع وأصول التكفير والخروج على الدولة ومحاربة كل القيم المدنية، والانغلاق الأعمى على فتاوى وزندقات ما أنزل الله بها من سلطان.
الحكاية بدأت عندما قام فريق صحفي، بتصوير حلقة حول مدرسة قرآنية تسمى ابن عمر كائنة في منطقة خلاء على بعد سبعة كليومترات من مدينة الرقاب التي تتبع إدارياً لمحافظة سيدي بوزيد وسط البلاد، حيث تفطّن الفريق إلى وجود بناية منفردة وسط الحقول بها جمع من الأطفال القُصّر والشباب، (72 طالباً) تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة والثلاثين عاماً، يدرّسون بداخلها القرآن وعلوم الدين، دون أي نوع آخر من التعليم، ويقيمون في نفس المكان الذي يحوي مبيتاً جماعياً، وتبدو على وجوههم آثار عدم الراحة والأوساخ ويتناولون الطعام على الأرض، ويلبسون اللباس الأفغاني كلّهم بلا استثناء، ويؤدون رياضات لا تشبه مثيلاتها في المدارس والمعاهد العمومية، ويتصرفون بشكل غريب، ما يدلّ على أنهم منعزلون عن العالم، وأنهم مقيمون هناك منذ سنين، وأن وضعهم غريب ويستدعي الحيرة والتساؤل.
الفريق الصحفي سأل عنهم في مندوبية الطفولة ومندوبية التربية والصحة والمرأة وفي الدوائر الأمنية بالمحافظة دون أن يظفر بجواب، فقرر بثّ ما توصّل إلى تصويره من مادة إعلامية على قناة تلفزيونية، فتحرّكت الجهات المختصّة، وقامت باقتحام المدرسة، واقتياد الأطفال، ووضعهم بمركز إيواء جنوب العاصمة، تحت رعاية اختصاصيين نفسيين واجتماعيين، حيث كشفت المعاينات الطبية وجود آثار عنف على بعضهم، وحتى آثار تحرش جنسي واغتصاب للبعض الآخر، وفيهم من لم يقدر على المشي بصفة سليمة من (عصا الفلقة) التي كانوا يُعاقبون بها عندما لا يقومون لأداء صلاة الفجر حاضراً، بل إن بعضهم تحدث عن استغلال صاحب المدرسة لهم في الأعمال الفلاحية بضيعته وفي أشغال المنزل وغيرها، وأنه يحرّم عليهم التلفاز والراديو وكل وسائل الاتصال والانترنيت، بل بدوا وكأن بعضهم يتفطن لوجود هذه الأمور لأول مرة في حياته.
التحقيقات أثبتت أن صاحب المدرسة رجل دين ثري، يُقال أنه كان مساعداً لمفتي الديار في افريقيا الجنوبية وأنه يسافر إلى المشرق كثيراً، وهو شاب ثلاثيني متزوج من أكثر من امرأة على خلاف الصيغ القانونية وله نفوذ قوي في أوساط المتدينين، كما تحدّث البعض عن أسماء كثيرة خرجت من هذه المدرسة مباشرة للقتال في سورية والعراق إلى جانب المجموعات الإرهابية.
السلطة تحرّكت بقوة تحت ضغط الرأي العام والإعلام، وعزلت محافظ سيدي بوزيد ومعتمد الرقاب (قائم مقام) وانطلقت أجهزتها في حملة عنيفة على كثير من المدارس المشابهة، فوقع الكشف عن عشرات منها في ظرف يومين فقط، في مختلف محافظات الجمهورية التونسية، بل إن كثيراً منها كان في وسط العاصمة وفي بعض ضواحيها، وأنها متشابهة تقريباً في طرق التدريس وفي اللباس والتعليم والتأطير الذي يتلقاه طلابها والذي لا يخرج عن تعليم القرآن وعلومه، دون تعلّم أي برامج أخرى من التعليم  الرسمي الذي وقع إقراره في تونس والذي يعتمد برامج ومناهج مراقبة من الدولة، وتخضع لكل المقاييس العلمية ومطابق للمواصفات العالمية.
ردود الفعل السياسية تنوعت بخصوص هذه المدارس، إذ رأى فيها الطيف الإسلامي أنها مدارس تقليدية عادية تقوم على تحفيظ القرآن للناشئة على غرار الكتاتيب المنتشرة في كل البلدان الإسلامية منذ قرون، وأن الحملة على مدرسة الرقاب لا تعدو أن تكون تصفية حسابات من الجناح العلماني لكل ما يمت للدين بصلة، كما رأى بعض المغالين منهم أن الحملة تقوم على محاربة القرآن وضرب الدين واجتثاث الهوية.
في الوقت نفسه رأى الطيف الأكبر من النخب والسياسيين التونسيين أن هذه المدرسة وأمثالها هي المفارخ الحقيقية للإرهاب، وهي أوكار لتصنيع التطرّف، وهي أرضية مثلى لتوليد طاقات القتل والتفجير والتفخيخ، وهي مبرمجة لهدم النمط التعليمي التونسي، ونمط الحياة المدنية، وخلق جيل لا يؤمن بقيم المجتمع، ولا بمراكمات الدولة الوطنية المدنية الحداثية القائمة على العلمانية وعلى المساواة بين المرأة والرجل وعلى تحريم تعدد الزوجات وغيرها من المبادئ التي يفخر التونسيون بأنهم كانوا السباقين إلى إقرارها أنموذجاً للعيش المشترك والدولة المدنية، قبل غيرهم من سائر الدول العربية والافريقية.
ولا شك أن اكتشاف هذه المدرسة، بكل ما تحتويه من صناعة لأجيال من الإرهابيين، وما تقدمه من فكر داعشي لا يمكن إلا أن يخلق أجيالاً من الانتحاريين ومن عشاق القتل والعنف ومكفّري المجتمع، قد أماط اللثام على مدى الانتشار الذي حققته هذه المدارس، ومدى تغلغل هذا الفكر في أوساط من المجتمع التونسي، وتمكنه من عقول الآلاف من أبناء الشعب التونسي، وتحويلهم إلى مشاريع إرهابيين، وإلى مسوخ بشرية لا تعرف غلا الحقد على الآخر، وتمني الموت تحت شعارات فضفاضة ترجع لمئات السنين.
وهي عملية بقدر ما صدمت الجميع في تونس لفظاعة ما يتعرّض له الطلاب المنخرطون في هذا النسق من المدارس، إلا أنها استطاعت أن تفتح عيون الجميع أيضاً على التغلغل الإرهابي الذي كان يخطط للسيطرة على المجتمع والدولة من خلال تكوين أجيال من المتطرفين فكرياً والمكفّرين الذين لا يعترفون إلا بما يقرؤونه في كتب الدجل والحقد والموت الأسود.