مستمر ةبالارتفاع إيجارات البيوت.. أرقام تسلب مدخرات الناس ودخولهم ومعاناة في البحث لإيجاد المأوى!
لا تخفى على أحد الإيجارات الجنونية التي أرهقت كاهل المواطن، خاصة في فترة الحرب، حيث وصل إيجار شقة صغيرة في إحدى ضواحي العاصمة، والتي قد لا تتجاوز مساحتها ستين متراً، إلى أكثر من مئة ألف ليرة سورية، رنا شابة في منتصف العشرينيات من عمرها حصلت على شهادة الثانوية العامة في محافظة دير الزور، وانتقلت لمتابعة دراستها في جامعة دمشق في عام 2012، وبسبب الأوضاع المأساوية في محافظتها بقيت بعيدة عن أهلها، واضطرت للعمل، بالإضافة إلى الدراسة، لتتمكن من تلبية احتياجاتها، مضيفة: مررت بظروف صعبة جداً بعد أن انقطعت كل وسائل الاتصال مع عائلتي، وبسبب الحصار الذي عانى منه الناس هناك، وكما يقال: (شو يلي جبرك عل المر إلا الأمر منو)، كنت أسكن في المدينة الجامعية مع ثلاث عشرة فتاة في غرفة واحدة، كنت أقضي ليالي طوالاً في البكاء لعدم تمكني من رؤية أهلي، أو الاطمئنان عنهم، ومن الوضع المزري الذي كنا نعاني منه أثناء إقامتنا في المدينة الجامعية، فكانت مجرد فكرة البحث عن مكان آخر للسكن تجلب لي التعاسة لاستحالة الموضوع، حيث فكرنا مراراً أنا وصديقات لي بالبحث عن منزل مناسب حتى ولو كان في منطقة بعيدة عن الجامعة، ولكن كنا في كل مرة نصاب بالصدمة من الأسعار الخيالية، إضافة إلى أن المدينة الجامعية، بالرغم من كل مساوئها، تبقى المكان الأفضل والأكثر أماناً، وخاصة مع سنوات الحرب الأربع الأولى، حيث كانت الأوضاع غاية في الخطورة والصعوبة!.
رحلة مضنية
مختار حي يعد من أكثر الأحياء حيوية وقبلة لكثير من المهجّرين الذين نزحوا إليه من كل المحافظات السورية، يضع اللوم على أصحاب المكاتب العقارية الذين لم يوفروا فرصة إلا واستغلوها لابتزاز واستغلال حاجة الناس المتضررين جرّاء الحرب، مضيفاً بأن استغلال أصحاب المكاتب العقارية لم يبدأ خلال الحرب على سورية، وإنما بدأت هذه المشكلة منذ سنة 2003 أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق الذي تزامن مع وصول آلاف العراقيين الذين نزحوا إلى سورية، حيث قاموا بتأجيرهم بيوتاً بأسعار خيالية من دون أية رقابة أو محاسبة، ما جعلهم يتمادون في استغلالهم، واستمر استغلال الكثير من أصحاب هذه المكاتب حتى أثناء حرب تموز في لبنان عام 2006، ومن ثم بدأت كرة الثلج تتضخم وتكبر حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، فأصبح كل مكتب يضع السعر على مزاجه من دون مراعاة للأوضاع الصعبة التي يعاني منها المهجّرون، أضف إلى ذلك العديد من المشكلات التي ظهرت جرّاء هجرة الكثير من العوائل السورية خارج البلد، واستيلاء أقاربهم على ممتلكاتهم من عقارات متمثّلة ببيوت وغيرها، وقيامهم بتأجيرها بأسعار خيالية من دون علم أصحابها، مستغلين حالة الفوضى التي حدثت، خاصة مع سنوات الحرب الأولى، وما لحقها من حالة البناء العشوائية في الكثير من المناطق التي لم تقتصر فقط على مناطق المخالفات، بل في مناطق تعد في مركز العاصمة من دون حسيب ولا رقيب، ما ساهم في تفاقم المشكلة، وارتفاع إيجارات البيوت!.
مبالغ كبيرة
الصعوبة حالياً على الموظفين أصحاب الدخل المحدود الذين لا يملكون مصدراً لدخل آخر، ففي العاصمة دمشق على سبيل المثال، الإيجارات مضاعفة في كل مناطقها دون استثناء، ونحن هنا طبعاً نقصد المناطق التي حافظت على استقرارها وبقيت آمنة، يوضح الدكتور سليمان عوض، كلية الاقتصاد جامعة حلب، أن أصحاب المهارات: (تجارية، صناعية، خدمية) الذين يحصلون على دخل مرتفع يتمكنون من دفع المبالغ المرتفعة لتلك الإيجارات، أما الطبقة الفقيرة جداً التي تسكن في أي بيت مهما كان غير صالح للسكن، أو لدى أحد معارفها، وتعيش على المعونات، سواء من الجمعيات الخيرية، أو مساعدة المعارف، هؤلاء من يعانون الأمرين لدفع إيجاراتهم، ما يضطرهم للعيش في ظروف مأساوية، وهنا يتساءل الكثيرون عن الطرق التي يتمكن خلالها الناس من تدبير وضعهم ودفع تلك الإيجارات المرتفعة التي لا قدرة لهم على تحمّلها، أبو محمد، أحد المهجّرين الذين اضطرتهم ظروف الحرب لترك منزله في إحدى ضواحي دمشق التي تعرّضت للإرهاب، يقول: لقد نزحت أنا و25من أفراد عائلتي واستأجرنا بيتاً في منطقة جديدة عرطوز، قائلاً: لا قدرة لي على أخذ منزل لي ولعائلتي الصغيرة فقط بسبب الأسعار الجنونية، رغم أن التواجد بالبيت نفسه مع هذا العدد الكبير من الناس حتى لو كانوا من أقربائك أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ولكن ليس باليد حيلة، أما خالدة، وهي موظفة تعمل في إحدى المؤسسات الحكومية، وأم لطفلين في المرحلة الابتدائية، فتقول: سافر زوجي مع بداية الحرب، وانقطعت أخباره عنا، ووجدت نفسي مع أطفالي وحيدين من دون معين بعد أن تركت منزلي في مدينة حلب، ولولا مساعدة أخي المقيم في ألمانيا لما تمكنت من دفع إيجار البيت، أنا أنتظر شأني شأن كل السوريين المهجّرين عن منازلهم اللحظة التي سنعود فيها إلى منازلنا، مختتمة حديثها بالكثير من الحسرة على ضياع أحلامها!.
بشكل جنوني!
فنّد الدكتور عوض الأسباب التي أدت إلى ارتفاع أسعار إيجارات البيوت في محافظة حلب على وجه الخصوص بمجموعة من النقاط، موضحاً: عادة حركة السكان الديمغرافية تتغير ببطء، وقد تطول لعشرات السنين، ولكن مع الأسف في الحرب التي تعرّضنا لها، وبسبب التدخلات الدولية والإقليمية غير المسبوقة، تسارعت وتيرة الحركة الديمغرافية بشكل كبير جداً، سواء بين (المحافظات، أو بين الريف والمدينة)، لاسيما باتجاه العاصمة والمدن الآمنة، فعلى سبيل المثال (حي الحمدانية مشروع 3000) الكائن في حلب حصلت فيه ثلاثة تغيرات ديمغرافية كبيرة، متابعاً: عندما تمت محاصرتنا من قبل الإرهابيين لما يزيد عن أربعة أشهر، نزح الكثير من أهالي حلب للمحافظات الآمنة، ومع اقتحام المجموعات الإرهابية، ودخولهم إلى حلب، نزح سكان حي الحمدانية لمناطق مختلفة، ثم مع فك الحصار حصل اكتظاظ سكاني غير طبيعي، فحتى الشقق غير الجاهزة امتلأت بالسكان، وأصبحت تؤجر للسكان القادمين من الأحياء الشرقية، وبعد تحرير تلك المناطق، عاد السكان تدريجياً، وامتلأت الشقق الجاهزة بالمستأجرين القادمين من البوكمال، كل هذه الأسباب أدت إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، واستغلال حاجة المهجّرين، مع العلم أن الجهات المعنية في حلب أسكنت الكثير من الطبقات الفقيرة في البيوت غير المكتملة، وفي المدينة الجامعية، ولا نخفي سراً إذا قلنا إن هؤلاء السكان تبدلت مساكنهم المسلّمة لهم مرتين أو أكثر بسبب الوضع غير المستقر الذي تعرّضت له مدينة حلب، مؤكداً أن إيجارات البيوت في حلب قبل الحرب كانت تتراوح بين 10000و15000 ليرة سورية في معظم المناطق.
حلول جذرية
يتحدث الدكتور سليمان عوض عن الحلول التي يجب اتباعها لمعالجة هذه المسائل المعقدة التي تتمثّل بداية بإحلال الاستقرار وعودة المهجّرين إلى بيوتهم بعد إعادة تأهيلها، وزيادة المعروض من الشقق الجاهزة للسكن، مضيفاً: حاول بعض مواطني الأحياء الشرقية في مدينة حلب السكن في بيوتهم هناك بعد أن قام الجيش العربي السوري بتحريرها من المجموعات الإرهابية، ولكن عدم توفر الخدمات والبنى التحتية من كهرباء وغيرها اضطرهم للاستئجار في المناطق التي بقيت مستقرة، لذلك الاستقرار وإعادة تأهيل الأحياء التي تعرّضت للدمار يحل معظم هذه المشكلات، خاصة في ظل الانخفاض الذي طرأ على عدد السكان نتيجة الهجرة التي حدثت جرّاء الحرب.
من المسؤول؟
لا توجد إجابة شافية عن هذا السؤال المعقد، لأن كل جهة ترمي المسؤولية على غيرها، فمثلاً محافظة دمشق ليست لها أية علاقة مباشرة بموضوع ضبط الإيجارات، وينحصر دورها فقط بتنظيم عقود الإيجار، السيدة هالة دهيم، مديرة مراكز خدمة المواطن في المحافظة، بيّنت أن عدد العقود التي تم تنظيمها في عام 2017 بلغ 23120، بينما بلغ العدد 23991 في عام 2018، موضحة أن جزءاً من العقود يتم تنظيمها في مراكز خدمة المواطن، والجزء المتبقي في الدائرة الاجتماعية، مديرية المالية في محافظة دمشق، لأن مكاتب البلديات التابعة للمحافظة غير مخدمة بمراكز الخدمة، إذاً السؤال المطروح اليوم: ما هو تأثير ارتفاع الأسعار وانعكاسها على الاستقرار الخدمي، والتحصيل الضريبي؟!.
ثقافة الإيجار
ربما لو تم تنظيم عمل المكاتب العقارية، وإيجاد ثقافة الإيجار في مجتمعنا كما هي في دول مجاورة لنا، لاستطعنا ضبط الوضع من خلال تحديد جهة رسمية معينة تكون قادرة على وضع شرائح أسعار حسب كل منطقة بدلاً من ترك الأمر بالتراضي والاستغلال بشكل عشوائي، ولبعض أصحاب المكاتب العقارية وجهة نظر مختلفة، كلاً حسب مصلحته الشخصية، أبو محمود، وهو صاحب مكتب عقاري في منطقة المزة، يتحدث عن منافسة غير شريفة يتعرّض لها من قبل ما أسماهم مافيات المكاتب في منطقته الذين حسب قوله يعمل بعضهم بالسلك التعليمي في الجامعة، وهذا ما يثير استغرابه ودهشته، فهؤلاء وعبر عدد محدد من المكاتب يسيطرون على السوق العقاري في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العاصمة حيوية واكتظاظاً بالسكان، حيث يقومون بالتلاعب بأسعار الإيجارات، وحركة البيع والشراء من دون حسيب ولا رقيب، ما يفتح المجال أمام كل من يرغب باستغلال وابتزاز حاجة الناس هناك، وبالتالي لو تم حصر هذه المسألة بجهات معينة، وسحب الرخص من المتلاعبين تحت طائلة المسؤولية لتمكنا من ضبط ارتفاع الأسعار الجنوني، الأستاذ عبد الله محمود، أستاذ مادة رياضيات، نزح مع عائلته من مدينة خان شيخون، يقول: أصحاب المكاتب العقارية المتواجدون في كل منطقة يسيطرون على السوق فيها، وبمجرد أن تسألهم عن منزل للإيجار يضعون لك سعراً مرتفعاً، والدفع بشكل مقدم لستة أشهر، وكلما كان المبلغ مرتفعاً زادت نسبتهم، أحدهم قال لي: لديك ولدان في السويد، وبالتالي لن تكون لديك أية مشكلة بدفع النقود، إضافة إلى أنك طيلة نهارك تعطي الدروس الخصوصية، يعني (عضمك دهب).
ختاماً: لابد من خطط بعيدة المدى، لأن معاناة تأمين منزل ليست بالأمر الطارىء، بل هي معضلة قديمة، ولطالما كان شراء منزل هو من أكثر الأحلام بعيدة المنال، لذلك كان يلجأ الآلاف للاستئجار كأحد الحلول الممكنة، ولكن اليوم، ومع ما وصلنا إليه من صعوبة حتى باستئجار منزل، زاد الأمر تعقيداً وصعوبة، لذلك لابد من تضافر كل الجهود للبحث عن حلول تحفظ كرامة المواطن، وتحميه من استغلال تجار الأزمات، ووضع حد سريع لارتفاع الأسعار الجنوني، وفرض عقوبات على المخالفين وضعاف النفوس.
لينا عدرة