شيء ما يحدث!؟
د. نهلة عيسى
هناك شيء ما ليس مفهوماً, ولا صائباً, ولا مطمئناً, ولا معلناً يحدث في بلادنا, بيوتنا, شوارعنا, أعمالنا, ذواتنا, أعصابنا, وقلبي يقف على رؤوس أصابعه متوجساً من هذا المحسوس المهموس به من أن يتحول في لحظة إلى صراخ محشو بالغضب المر, يصعب إسكاته, أو حتى استيعابه!!
هناك شيء يحدث ربما يبرره العقل, وربما الحرب بعض أسبابه, لكنه يشبه الكفر بلا بديل عن الرب, فأي حواجز نعبر, وخلف أي متاريس نختبئ ورايات الخيبة والنقمة تعتلي خنادق يقظتنا ونومنا, وكل الطرق منها وإليها, وكأن مناقير الكواسر في عيوننا, والعدو صحارى من الرمال المتحركة, حيث كل أحد خصم لكل أحد, فلمن نبتهل, وعلى من نطلق الرصاص!؟
هناك شيء ما يحدث في بلادنا, أشبه بالهواجس الوجودية, والمخاوف الكابوسية من أن غداً ليس الغد الذي كان منتظراً, خاصة ونحن نرى معالم الدمار والخراب في البشر قبل الحجر, وملامح التآلف مع القبح والبشاعة, واعتياد ليس الوجع فحسب, بل أيضاً الاستهانة بنا والتطاول علينا, واعتبار كل ذلك قضاء وقدراً, بل (وهنا المأساة) شطارة واحتيال على العيش, وتلاؤم مع مقتضيات الحال, ولتذهب كل دماء الشهداء والجرحى وصبرنا ودموع الأمهات هدراً إلى جحيم اللامبالاة والنسيان, وربما الجحود, ولنستعيد حياتنا الماضية بكل أخطائها وعثراتها وهناتها كوجبة بائتة, مضافٌ إليها كل قباحة الحاضر بفساده وفاسديه ومرتزقته ومسوقيه, كتوابل ومنكهات حارقة لواقع مر, وليس أبشع من خليط المر مع الكاوي الحار, غير تبنيه والدفاع عنه, وترويجه باعتباره انتصاراً وتحدياً للموت, بما هو ألعن من الموت!!
يغمرني الخوف لأن هناك شيئاً ما غير معلن يحدث في بلادنا, والمبررات الموضوعية لجزعي وذهولي, كانت تسير على قدمين أمام وجوهنا جميعاً في دهاليز سيرنا في كل ثانية من حياتنا اليومية, بداية بتعايش الناس الطبيعي والسلمي مع الانتظار الطويل المذل, والرشوة والإتاوة اللتين استشريتا إلى حد أنهما أصبحتا قانوناً ملزماً وقاعدة ضرورية لحل كل الأمور اليومية, من رغيف الخبز وأنبوبة الغاز وجالون المازوت والبنزين, وحتى لقمة الفم وستر البدن, وبما يتجاوز حتى البديهيات بطبيعته وسلاسة حدوثه وتقبله, لدرجة أخشى أن يأتي يوماً نصنع فيه نصباً تذكارياً “للحق بالحياة الطبيعية”, نذهب إليه في المواسم والأعياد لالتقاط الصور, والحديث بلغة السائح العابر الغشيم, عن ذاك الراحل منذ زمن بعيد، ناهيك عن مهادنة الجميع, لتجار وسماسرة احتياجاتهم, والقبول بسرقاتهم وجشعهم وابتزازهم, ومسامرة المتسلقين والانتهازيين والوصوليين, ومصاحبتهم والتداني أمامهم, وتحويلهم إلى رموز للنجاح والاقتداء والفخر, والطأطأة لوقاحاتهم وادعاءاتهم وأكاذيبهم عن الشرف والنبل ونظافة اليد والعمل, بصورة تبيح لهؤلاء الاستمرار في مص الدماء وهدر الكرامات, والتباهي بالتسابق المحموم للتعدي على كل القوانين والقيم, بل والتفاخر بانتهاكها, وتتويج المفرط منهم في الخروج على النظام بطلاً شعبياً تروى فيه وعنه المآثر والملاحم!؟
أخاف, وخوفي مشروع ومبرر, أن حياتنا على كافة المستويات بداية من الحكومة ونهاية بأصغرنا, أصبحت أشبه بلعبة الورق الشهيرة (التريكس) البارع فيها هو من يُحمّل باقي اللاعبين كل الأوراق غير المرغوب فيها, مع السعي الحثيث للوصول إلى نهاية اللعبة بأقل قدر من الخسائر على حساب شركاء اللعب, وبمباركة وحسد منهم, والدعوة للعب من جديد, لعل وعسى أن يكون أحدهم الرابح الجديد!؟
أخاف, وخوفي ليس تخاذلاً, ولا منة, ولا تحميل جمائل للوطن, أن نكون نحن الذين بقينا في الوطن, وعتبنا ولمنا من غادره, لأنه تخلى عنه في وجعه, أنه بات لدينا مليون سبب لمغادرة الوطن, وربما نحن سبب من أسباب وجع الوطن, لأننا بدل أن نثور في وجه قاتليه من الداخل والخارج, أصبحنا نثور في وجهه, وأننا ونحن نظن أننا ندافع عنه, نقوم بشنقه, وأننا رغم كل مرارة الحرب والحصار وسوء إدارة شؤوننا العامة التي نحترق في أتونها, مازلنا نجهل من نحارب, ولماذا نحارب, ومع من نحارب, وكيف نحارب, والكلام وجع؟!