أوروبا المدمرة نفسياً
عناية ناصر
تعد أوروبا مجالاً مهماً وممتعاً للدراسة، ليس لأن لها أهمية عالمية كما تدعي، بل لأنها أثبتت أنها مسرح لعمليات سياسية غريبة ومفيدة. وحالياً تتغير أوروبا أمام أعيننا، وما بدا مستحيلاً قبل بضع سنوات بات لا يفاجئ أحداً الآن. والسؤال هو إلى أين ستقود هذه التغييرات مشروع التكامل الأوروبي، وماذا سينتج عنها بالنسبة لجيران أوروبا وخاصةً روسيا؟! لقد أصبحت روسيا متعبة للغاية من النخبة الأوروبية التي تعاملت معها في السنوات القليلة الماضية، ولهذا السبب ترحب موسكو بالتغيير في المشهد السياسي في القارة القديمة، إما صراحة أو ضمنياً، ومع ذلك، فإن هذا لا يلغي الحاجة إلى تحليل أكثر جدية للسياسيين الأوروبيين الجدد الذين سيقودون التكامل الأوروبي.
لا يوجد ما يدعو روسيا إلى القلق من الاتحاد الأوروبي كتهديد أمني، ويبدو أنه من غير المحتمل أن يتغير ذلك في المستقبل. لقد استنفدت الحربان الرهيبتان في القرن العشرين القدرة التدميرية للقوى الأوروبية الكبرى. وعلى الرغم من امتلاكها موارد بشرية كبيرة و”في حالة فرنسا” أسلحتها النووية الخاصة بها، فإن البلدان الأوروبية مدمرة نفسياً وعلى ما يبدو فإنه لا يمكن لها استعادة روحها القتالية، وأكثر ما يمكن أن تكون قادرة عليه هو العمليات الاستعمارية التي تجري بانتظام في ممتلكاتها الأفريقية السابقة، مثل فرنسا، وبالطبع فإن تلك العمليات تأتي كجزء من العمليات العسكرية الأمريكية. لذلك لن تشكل أوروبا مشكلة كبيرة بالنسبة لروسيا. علاوة على ذلك، قد يؤدي الرحيل التدريجي للنخب، التي أوصلت قراراتها العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي إلى طريق مسدود، إلى فتح فرص جديدة، وهكذا وبالنظر إلى هذه الدرجة من الفوضى في الاتحاد الأوروبي، فمن المنطقي تحليل الاتجاهات المحتملة التي قد تتخذها.
بادئ ذي بدء، يمكننا إلغاء السيناريو الذي ينهار وفقه الاتحاد الأوروبي. من غير المحتمل أن تضع العمليات السياسية المتسارعة نهاية لظاهرة التكامل الأوروبي.
ويعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثالاً رسمياً على كابوس لا مفر منه لدولة تحاول الانسحاب من السوق المشتركة مع تجنب الانهيار الاقتصادي الخاص بها. ومن المعلوم أن مارين لوبن تحدثت في مقابلة أجريت معها مؤخراً عن أهمية إصلاح الاتحاد الأوروبي على نحو يختلف عن خطابها الانتخابي حول الحاجة إلى مغادرة الاتحاد.
وبالمناسبة، يمثل هذا تغيراً مهماً جداً في نموذج السياسيين الذين تصفهم عادة النخبة التقليدية في الاتحاد الأوروبي بالشعوب وعلماء اليورو، فقد تمكنت أكبر الحركات اليمينية في الاتحاد الأوروبي – في إيطاليا وفرنسا – من تنسيق إجراءاتها بشكل جيد نسبياً في وقت مبكر من حملة الانتخابات البرلمانية الأوروبية. وإذا استطاعت، إلى جانب الأحزاب اليمينية الأصغر في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، أن تقدم في البرلمان الأوروبي رؤية متماسكة، بدرجة أو بأخرى، لمستقبل التكامل الأوروبي، فسيكون ذلك علامة بارزة في تاريخ الاتحاد الأوروبي.
دعونا نتذكر أن المرة الأولى والوحيدة التي أنشأ فيها البرلمان الأوروبي مفهوماً جديداً لنموذج التقدم في التكامل كان قبل 40 عاماً، وكان العقل المدبر له الفيدراليون الأوروبيون الأقدم والأكثر حكمة بقيادة ألتيرو سبينيللي. في عام 1984، اقترحوا مشروع معاهدة حول الاتحاد الأوروبي، وظهر العديد من الأحكام بعدها في أكثر الأعمال شبه الدستورية نجاحاً في الاتحاد الأوروبي، معاهدة ماستريخت لعام 1991.
ومع ذلك، منذ ذلك الحين، تم تهميش البرلمان الأوروبي إلى منتدى لمناقشة مستقبل أوروبا. نمت سلطاته، ولكن دوره في هذه القضية الهامة قد تضاءل. لقد تم تقديم جميع المبادرات الأكثر أهمية أو أقل المتعلقة باستراتيجية التكامل أو دور أوروبا في العالم من قبل رؤساء المفوضية الأوروبية أو قادة الدول الكبرى. ويحدث نفس الشيء الآن في الوقت الذي يحاول فيه إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل العمل كقائدين على الرغم من أنه لا بد من الاعتراف بأن ذلك ليس مقنعاً، بسبب ندرة الأفكار والتحديات الداخلية الخاصة.
أما بالنسبة لرؤساء المفوضية الأوروبية، فإن نشاطها السياسي كان منطقياً خلال عهد جاك ديلور العظيم، ولكن من الصعب فهم أن يأتي ذلك من كيان غير كامل في عهد، خوسيه باروسو، أو أكثر من ذلك بقليل في عهد جان كلود يونكر، فالحياة السياسية في الاتحاد الأوروبي خضعت لبيروقراطية متعفنة. وكان عمل مسؤولي بروكسل الذين يتمتعون بكفاءة عالية بشكل عام، يعتمد على القصور الذاتي لمؤسساتهم بدلاً من الخطط الكبرى. ونتيجة لذلك أصبح البرلمان على نحو متزايد ملحقاً بالمفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي في تبني قوانين تشريعية فرعية، ويشير انخفاض نسبة الناخبين في الانتخابات للبرلمان الأوروبي إلى أن المجتمعات الأوروبية تدرك ذلك تماماً.
إذا كان السياسيون اليمينيون الأوروبيون يقدمون نظرة واضحة لما يمكن أن تصبح عليه أوروبا في المستقبل، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التكامل، فإن ذلك سيكون بمثابة تغيير في قواعد اللعبة. إن سلوك السياسيين مثل ماتيو سالفيني يظهر أنهم على علم بذلك، وسيحاولون ألا يضيعوا الفرصة المتاحة لهم للتخلص من المؤسسة الأوروبية التقليدية من خلال العمل من خلال نفس المؤسسة التي أنشأتها هذه المؤسسة التقليدية. وعلى هذا النحو، من المرجح أن تكون الانتخابات للبرلمان الأوروبي في شهر أيار المقبل هي الانتخابات الأكثر إثارة للاهتمام على مستوى أوروبا خلال ما يقرب من 30 عاماً، لأن نجاح الأحزاب والحركات الآتية من خارج المؤسسة في هذه الانتخابات سيؤدي إلى تعزيز هذه المؤسسة الأكثر ديمقراطية من الناحية النظرية، وسيطرد الاتحاد الأوروبي الهامشي.
هذا مهم بشكل خاص بالنظر إلى أن حريات التنقل الأربع – البضائع والأشخاص ورؤوس الأموال والخدمات – التي تشكل الفائدة المشتركة من السوق المشتركة للدول الأعضاء. حتى التكاليف تقابلها تماماً مزايا ضمان الوصول المتبادل إلى الأسواق. الوضع مع اليورو أكثر تعقيداً. إذ تم بناء نظام العملة الأوروبية المشترك بطريقة تجعله جيداً بشكل لا لبس فيه لمجموعة من البلدان وسيئاً لأخرى، ومن الضروري إصلاح هذا النظام، ربما من خلال إعادة التأهيل المالي وانسحاب البلدان الأشد تضرراً مثل اليونان والبرتغال، والتي يجعلها اليورو أمام فجوة أبدية لا يمكن التغلب عليها، ولا سيما أن نموذج بعض بلدان أوروبا الشرقية، على سبيل المثال، رومانيا، يُظهر أنه من الممكن جداً التطور خارج منطقة اليورو.
وبالتالي، سيتم الحفاظ على السوق المشتركة، ولكن البنية الفوقية السياسية التي تكونت على مدى ما يقرب من 30 عاماً من التكامل ستكون محدودة للغاية، وسيتم تقليص وظائف وسلطات المفوضية الأوروبية إلى حد كبير كذلك. وبدلاً من أن تكون مؤسسة سياسية، يجب عليها العودة إلى وظيفتها في خدمة الدول المشاركة وحكوماتها المنتخبة ديمقراطياً. ومن المرجح أن تصبح الحاجة ملحة لمسألة مراجعة الممارسة الثابتة المتمثلة في تقييد سيادة الدول الفردية في الاتحاد الأوروبي في السنوات القليلة المقبلة. في الأساس، يمكن تفسير نجاح الأحزاب خارج المؤسسة في الانتخابات في إيطاليا من خلال حقيقة أن ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي تم تجريده من حقوقه نتيجة للقرارات التي فرضتها أنجيلا ميركل في 2012-2015.
ومن غير المحتمل أن تفعل أوروبا مؤسساتها العسكرية السياسية. وبصفة عامة، فإن وجود الناتو يجعل فكرة القوات المسلحة المستقلة في الاتحاد الأوروبي فكرة ساذجة، ويرجع ذلك أساساً إلى أنه من المستحيل تخيل المكان الذي يمكن استخدامها فيه، فالحماية ضد العدو المحتمل الجدي الوحيد – روسيا – يتم توفيرها من قبل حلف الناتو. يجب تنفيذ العمل ضد الإرهابيين أو مواجهة الهجرة من قبل وكالات الاستخبارات الفعالة، وليس من الكتائب البحرية. ولتقديم استنتاج مبدئي، يمكننا القول: إن أوروبا في المستقبل ستحتفظ بسوقها المشتركة وستصبح أكثر ديمقراطية في تنظيم العمليات السياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي. وستستفيد روسيا من ذلك لأن لديها المزيد من الفرص لتعزيز مصالحها. وأخيراً، هناك فرصة أن تكون السياسة الخارجية لأوروبا الموحدة أكثر تنوعاً، وأكثر أهمية، وأكثر بهجة.