الحرب الباردة تلوح في الأفق
علي اليوسف
كل المؤشرات تدلّ على أن حرباً باردة جديدة تلوح في الأفق القريب، لكن هذه الحرب لن يكون أقطابها الكلاسيكيون القدامى، روسيا وأمريكا، بل ستدخل على الخط دولٌ كانت تطمح لدخول هذا الصراع، ليس من أجل الصراع بحدّ ذاته بقدر الدخول في تصنيف القوى المهيمنة، أي الخروج من عباءة الآخرين مثل فرنسا وألمانيا، وإثبات بأن هناك قوى يجب حسبانها في قادم الأيام مثل الصين.
وإذا ما تمّ إجراء مقارنة بين تلك القوى الباحثة عن موطئ قدم في الحرب الباردة القادمة، لاشك أن الصين ستكون القطب الثالث في المعادلة الجديدة لأسباب كثيرة، أهمها أنها لم تكن يوماً أداة لتنفيذ أجندات الآخرين، وأنها باتت القوة الاقتصادية الأولى في العالم من دون منازع، أي أن المعادلة المنطقية لترشيحها كقطب ثالث تفوق الطموحات الفرنسية والألمانية، لأنهما منذ الحرب العالمية الثانية وهما جزءان من كيان “الناتو” الذي تتحكّم به الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من ذلك أن هاتين الدولتين رغم تصنيفهما ضمن القوى العظمى في مجلس الأمن الدولي، إلا أنهما، إلى جانب جميع الدول الأوروبية، كانتا مجرد أداتين في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وتنفذان جميع مخططاتها سواء في دول الشرق الأوسط أو دول القارة الإفريقية.
الآن شعر الأوربيون بطعنة أمريكا لهم في الظهر لجهة انسحاب الأخيرة من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية الدولية، وهو الذي عرّى أوروبا أمام المجتمع الدولي ودفعها للالتفاف على قرارات أمريكا ببدائل للحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وأحدثها تلك المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل امتد ليطال هواجس القارة العجوز بأكملها بأن الحماية الأمنية التي كانت توفرها أمريكا لأوروبا ضد عدو وهمي تمّ تضخيمه بطريقة هوليودية باتت هي الأخرى في خانة الخطر، ومادام الأمن الأوروبي بات مهدداً، كان لابد من اتخاذ خطوات عاجلة كإنشاء جيش أوروبي موحد للحدّ من هذا الخطر القادم، وهو ما دعت إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ايمانوبل ماكرون في مؤتمر “ميونيخ للأمن” الذي عُقد في شباط 2018، وأحدث صدى واسعاً أوروبياً ودولياً.
في واقع الأمر إن الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد كانت تتكرّر منذ عقدين، حتى إن معاهدة “ماستريخت” التي أنشئ بموجبها الاتحاد الأوروبي عام 1991 نصّت على “وضع سياسة خارجية وأمنية تُستكمل بسياسة دفاعية مشتركة عندما تنضج الظروف”، لكن هذه الظروف لم تنضج بالمعنى الذي نصّت عليه معاهدة “ماستريخت”، إلا بعد أن تُركت أوروبا وحيدة لمواجهة التحديات القادمة.
منذ عقدين، ركزت الدول الأوروبية على توحيد السياسات الاقتصادية والمالية لها وإنشاء عملة موحدة، وكان طموحها حينذاك التأسيس لتكتل اقتصادي لا يمكن منافسته، لكن ما حصل هو العكس، إذ خرجت الصين كقوة اقتصادية بفضل ابتعادها عن الدخول في الحروب العبثية، بينما بقيت أوروبا أسيرة فتات تلك الحروب الذي كانت تعطيه أمريكا لها، وانشغلت عن هدفها الاقتصادي والذي نرى نتائجه الآن من السترات الصفراء إلى بريكست.
أما الآن فقد نضج الظرف لدول الاتحاد الأوروبي الذي تصاعدت فيه التهديدات الأمنية بأشكال غير تقليدية، ولهذا تمّ تجديد الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد، ما دامت الأحلام الاقتصادية بعثرت من الشريك الأمريكي. وفي مؤتمر “ميونيخ للأمن” تحديداً أكدت ميركل أن وقت “اعتماد أوروبا على الغير قد انتهى”، فيما دعت وزيرة الدفاع الفرنسية “فلورنس بارلى” الدول الأوروبية لامتلاك “استقلالية إستراتيجية” في مجال الدفاع.
اتفاقية “بيسكو”
وبالفعل بدأت الدول الأوروبية اتخاذ خطوات تنفيذية نحو صوغ سياسة دفاعية وأمنية مشتركة، تمثّلت في توقيع اتفاقية “بيسكو”. ففي منتصف تشرين الثاني 2017، وقّعت 23 دولة في الاتحاد الأوروبي مذكرة التعاون “الهيكلي الدائم في الأمن والدفاع” (بيسكو-PESCO)، التي تُعنى بالتزامها بتعاون أمني ودفاعي استراتيجي طويل المدى ودائم، ما يتيح للدول الأوروبية الموقعة التعاون بشكل أوثق لبناء القدرات الأمنية والعسكرية، وتنفيذ عمليات عسكرية ومهمّات تدريب في مناطق الجوار الأوروبي. والمذكرة تضم 50 اقتراحاً تتعلّق بمشاريع بحثية وبتطوير صناعي عسكري، طرحت نتيجة مبادرة فرنسية- ألمانية قُدّمت لدول الاتحاد في خريف عام 2015. ووفق المذكرة، سيتمّ إنشاء صندوق أوروبي برأسمال 5.5 مليارات يورو لتمويل برامج البحوث والتطوير العسكرية، ومشاريع الصناعات العسكرية المتقدمة، و90 مليون يورو لتمويل برامج البحوث والتطوير حتى عام 2020، ما يمثل 2% من ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء فيها.
المتابع للشأن الأوروبي سيجد أن المواقف الفرنسية والألمانية خلال العام الماضي شهدت تطابقاً وتنسيقاً مستمراً في ملفات الشرق الأوسط، والدعوة لتطوير الاتحاد الأوروبي، وهذا يرشح “ميركل، ماكرون” ليقودا معاً الاتحاد نحو مرحلة جديدة من تطوره عقب خروج بريطانيا منه. هذا التنسيق الفرنسي- الألماني كان أحد الدوافع لتكثيف الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد في الوقت الراهن، فضلاً عن عدد من الدوافع الأخرى، ومنها: أزمات الشرق الأوسط بعد أن تعرّضت الدول الأوروبية لأزمات أمنية غير تقليدية، منها أزمة تدفّق اللاجئين عبر اليونان وإيطاليا، والتهديدات الأمنية التي تتركز في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة شرق أوروبا القريبة من الحدود الفرنسية الجنوبية، والحدود الألمانية الشرقية، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفقدانه القوة النووية الثانية في أوروبا بعد فرنسا، وقد عزّز تلك المخاوف سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي رفع شعار “أمريكا أولاً”، وشجّع الانسحاب البريطاني، وشكّك في جدوى حلف “الناتو” وطالب أعضاءه بتقاسم الأعباء المادية والعسكرية له بشكل متساوٍ كي لا تتحمل واشنطن العبء الأكبر.
عوائق مختلفة
على الرغم من أن تقرير لندن للتوازن العسكري لعام 2018 يعكس أن الدول الأوروبية شهدت أسرع نمو للإنفاق الدفاعي الفعلي عام 2017 بنسبة 3.6%، فإن الخبراء العسكريين يؤكدون ضعف البنية العسكرية الأوروبية، لأن الاستثمارات الدفاعية لا توجّه لتعزيز جهود القوات المسلحة الأوروبية لمجابهة التحديات المستقبلية، كما أن غالبية دول الاتحاد تفتقر عسكرياً لقدرات النقل الاستراتيجي والأقمار الاصطناعية والقيادة المركزية. وكشف تقرير برلماني ألماني عن ضعف جهوزية الجيش بعد خروج الغواصات الست التي يمتلكها من الخدمة، وتعطّلها بسبب مشكلات تقنية. كما أن عدد القوات قليل مقارنة بدول أخرى، حيث يتكوّن الجيش الألماني من 180 ألف جندي فقط، وهذا لا يتناسب مع دولة تسعى لتكوين جيش أوروبي كبير ستضطلع بالدور المركزي فيه.
إضافة إلى ذلك هناك العديد من الأزمات الداخلية التي تعرقل إنشاء جيش أوروبي موحد، منها غياب سياسة أمنية أوروبية موحدة. فحتى اليوم وبعد 6 عقود من الوحدة الاقتصادية، عجزت الدول الأوروبية عن صوغ سياسة أمنية موحدة، مما يؤكد عدم وجود رغبة فعلية في تحقيق ذلك، كما أن الاتحاد الأوروبي يتعرّض لأزمة بنيوية بعد انسحاب بريطانيا، وتصاعد النزعات الانفصالية في دول الاتحاد ذاتها عبر مطالبة أقاليم صغيرة بالانفصال، وتكوين دول جديدة (اسكتلندا، كاتالونيا، الباسك)، مما دفع محلّلين إلى توقع تفكك الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2040.
مقابل ذلك كله، ورغم أن ترامب دعا أكثر من مرة الاتحاد الأوروبي لتحمّل نفقاته الدفاعية، فإن المسؤولين الأمريكيين أبدوا قلقهم من احتمال انتهاج القارة الأوروبية سياسات حمائية في القطاع الدفاعي. وأعلنت “كايتي ويلباجر”، أبرز مساعدي وزير الدفاع الأمريكي “جايمس ماتيس”، أن بلادها تسعى إلى تناغم اتفاقية “بيسكو” مع “الناتو”، وإحداث تكامل بينهما، وعدم تقليص قوى الناتو ونقلها إلى الاتحاد الأوروبي. وأكد المحلّل السياسي الروسي “أندريه كوشكين” أن واشنطن لن تسمح للاتحاد الأوروبي بإنشاء الجيش الخاص به لكي تواصل سيطرتها على أوروبا التي تعتبر “المجال الحيوي” لها. وحال تمّ ذلك، فسيؤدي لتقليص دورها في الناتو وعلى الصعيدين الأوروبي والدولي. كما أن الدعوة الأوروبية تكشف عن فقدان ثقة بالشريك الأمريكي، وتؤكد رغبة الدول الأوروبية في الاعتماد على نفسها لتشكيل سياسة دفاعية مستقلة عن واشنطن، لأن تهديدات الأمن الأوروبي ليست متسقة مع مثيلاتها الأمريكية.
لذلك فإن التوجه الأوروبي لإنشاء جيش موحد، رغم كافة العقبات التي تعرقله، تؤكد أن هناك العديد من المؤشرات التي تُنذر بإمكانية بزوغ نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، سيكون فيه دور بارز للصين، ومحدود للاتحاد الأوروبي. ولهذا يرجح الكثير من المراقبين أن العالم يمرّ بأجواء حرب باردة فعلية، حيث يتصاعد التنافس الروسي- الصيني- الأمريكي. وقد كشف التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن لعام 2018 أن الصين وروسيا تتحديان الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، الأمر الذي باتت تداعياته ظاهرة على مناطق النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وأن جيوش الدول الثلاث الرئيسية الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) شرعت في جهود الاستعداد الممنهج لاحتمالات نشوب هذا النوع الجديد من الحرب الباردة. فما هو الموقف الأوروبي وأين مكانها في هذه الحرب؟.