إيران ترسم ملامح المسارات الجيوسياسية
علي اليوسف
في 11 شباط 1979 عاد آية الله الخميني إلى طهران على متن طائرة قادمة من باريس إيذاناً بسقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي بعدما فقد الدعم الأمريكي، ليتم بعدها، وتحديداً في 1 نيسان من العام نفسه، الإعلان عن تأسيس جمهورية إيران الإسلامية.
لم تولد الثورة التي سبقت ذاك العام من فراغ، فخلال القرن العشرين، شهدت إيران عدداً من الانتفاضات الشعبية التي وضعت حداً للحكم الملكي المطلق، وحينها كان الإيرانيون ينظرون إلى الشاه بصفته حاكماً منعزلاً عن حياة شعبه، وينظر إليه في الوقت نفسه كعميل للولايات المتحدة، وهذا ما أضفى الحيوية على تلك الحركة الشعبية، وأدى بالتالي إلى نجاح الثورة، ووقتها أضحى آية الله الخميني مؤطر الجماهير، وكان نتاجاً لتطلعات الشعب الرامية إلى تغيير كامل، وليس للقوى الحاضنة للنظام فحسب.
إنجازات إيران
إيران دولة لا شرقية ولا غربية، هي دولة وطنية غير خاضعة كغيرها لأمريكا، وهي من أوائل الدول المستقلة في المنطقة وفي العالم، حيث تجلت إنجازات الثورة في إقامة النظام الجديد على قاعدة السيادة الشعبية، والاستفتاء الشعبي، وصولاً إلى التطور الكبير في الموقع الإقليمي، لتصبح إيران على مدى 40 سنة دولة المؤسسات والدستور والقانون والسيادة الشعبية، وهذا أهّلها بطبيعة الحال لتكون السابعة في العالم ببراءة الاختراع، وفي المرتبة 16 في العالم بإنتاج العلم، وهذه الإحصاءات ليست صادرة عن الحكومة الإيرانية، إنما مصادرها هي الأمم المتحدة ومنظمات دولية.
إيران اليوم الرابعة في العالم من حيث دراسات النانو، كما أنها في المرتبة الأولى في المنطقة بالرياضيات، والمرتبة 13 في العالم بالرياضيات والفيزياء، وموقعها في الاقتصاد العالمي رقم 18، كما تصنع 90% من حاجاتها الدفاعية، وتصدر ما قيمته 5 مليارات دولار للعالم.
أما على صعيد المواقف الثابتة، فقد دعمت الثورة الإيرانية المقاومة في المنطقة بوجه الكيان الإسرائيلي، كما أنها وقفت إلى جانب الشعب العراقي بوجه “داعش”، ومن إنجازاتها أيضاً تقديم الدعم للدولة السورية في مواجهة الإرهاب، ودعم المقاومة في فلسطين ضد العدو الصهيوني.
لقد ساندت إيران تاريخياً بلداناً في معسكر المعادين للولايات المتحدة وللامبريالية الأمريكية، مثل فنزويلا، وبوليفيا، وكوبا، كما استطاعت إقامة تحالفات في المنطقة مع لبنان، وسورية، والعراق، وأرمينيا، وإقامة علاقات صداقة مع بلدان مثل الصين، والهند، وروسيا.
وبفعل هذه التحولات بدت إيران اليوم قوة إقليمية مستقلة، ويرجح الخبراء أن تكون لمستقبل البلاد أهمية إلى درجة ربما تؤثر في مصير عملية السلام المتعثرة في الشرق الأوسط، وأبعد من ذلك.
العلاقات السورية الإيرانية
يمكن النظر إلى العلاقات السورية الإيرانية باعتبارها إحدى أكثر القضايا إثارة في المشهد السياسي الراهن للشرق الأوسط، فهذه العلاقات هي اليوم موضع اهتمام وتتبع وثيق من قبل مختلف الفرقاء الإقليميين والدوليين، خاصة أن عمق العلاقات المشتركة بين سورية وإيران بلغت مرحلة الأخوة الحقيقية، وتجلى ذلك في وقوف إيران إلى جانب الشعب السوري في حربه ضد الإرهاب، وإعادة البناء والإعمار.
تعود العلاقات السورية الإيرانية في سياقها الراهن إلى عام 1979، وهو العام الذي تأسست فيه الجمهورية الإسلامية في إيران على يد الإمام آية الله الخميني، أما منظّر هذه العلاقات وواضع فلسفتها فهو الحرس الثوري الإيراني.
كانت لدى الحرس الثوري رؤية مفادها أن الثورة الإيرانية الوليدة لا يمكن أن تقف على قدميها إلا بالارتكاز على منظومة وثيقة من التحالفات مع كافة القوى التي تشاركها الأهداف الأساسية، وأن هذه التحالفات تعد جزءاً من الثورة ذاتها.
وعلى خلفية هذه الرؤية، تم وضع اللبنات الأولى لعلاقات إيران مع عدد من الدول الموصوفة حينها بـ “الراديكالية” في الوطن العربي، بما في ذلك سورية، وليبيا، واليمن الجنوبي، إلا أن سورية بدت حالة مختلفة عن التجربتين الليبية واليمنية الجنوبية، وكانت لموقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط إيحاءاته الخاصة في حسابات طهران، فقد قادت البيئة السياسية والأمنية التي أفرزتها صراعات المنطقة والحروب المفتعلة لظهور سياسة محاور واستقطاب في الساحة العربية، وأمام هذا المشهد الجديد، تغيرت مواقع اللاعبين، وفي هذا التغير كانت العلاقات الإيرانية السورية تسير بخطا ثابتة نحو التعزيز.
واعتباراً من مطلع التسعينيات، بدأت العلاقات الإيرانية السورية تتجه نحو مرحلة جديدة، متأثرة بطيف عريض من تحولات البيئة الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وأول هذه التحولات تمثّل في انهيار الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج الثانية، وما تبعها من انتشار عسكري أمريكي واسع في منطقة الخليج، رأت فيه إيران تهديداً كبيراً لأمنها القومي، ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث وضع هذا الحدث كلاً من سورية وإيران على فوهة بركان.
وعلى خلفية التطورات الكبرى هذه، تسارعت وتيرة التعاون السوري الإيراني، واتسع نطاقه ليشمل جملة عريضة من القضايا الثنائية والإقليمية، وفي هذا الإطار برز التعاون العسكري الفني والتقني بين الدولتين، وقد حمل هذا التعاون مدلولاً جيوسياسياً، مع الدعم الإيراني السوري المشترك لحزب الله في لبنان، وأخيراً، يمكن القول: إن التحول الأكثر راهنية في مسار العلاقات السورية الإيرانية قد حدث مع اندلاع شرارة التظاهرات في درعا، في آذار من عام 2011، عند هذه النقطة، تحولت سورية بالنسبة لإيران إلى رهان جيوسياسي.
الشيطان الأكبر
منذ تأسيسها دخلت جمهورية إيران في حرب أيديولوجية وسياسية مع أمريكا، ثم اندلعت الأزمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في تشرين الثاني 1979 بعد حادث اختطاف رهائن أمريكيين داخل السفارة الأمريكية بطهران، وبقيت العلاقات الدبلوماسية منقطعة بين البلدين لغاية عام 2013 بعد تبادل الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما والإيراني حسن روحاني الحديث عبر مكالمة هاتفية.
الاصطدام مع الغرب بلغ ذروته في ظل الرئيس محمود أحمدي نجاد 2005 2013، لأن ما كان يميز هذا القائد السابق في جهاز الحرس الثوري الإيراني هو صرامته إزاء الملف النووي، إضافة إلى انتقاداته اللاذعة وتصريحاته ضد “إسرائيل”.
لكن الانتقادات للكيان الصهيوني لم يكن لها ذلك التأثير بقدر البرنامج النووي الإيراني الذي أثار مخاوف الدول الغربية، ما استدعى من الأمم المتحدة استصدار عدة قرارات مرفقة بعقوبات سياسية واقتصادية كبيرة على طهران لإرغامها على التخلي عن برنامجها النووي.
وفي تموز 2013 تم انتخاب حسن روحاني رئيساً جديداً لإيران فخفف حدة التوتر مع الغرب حول الأزمة النووية، ووعد بحل عن طريق المفاوضات، وبعد سلسلة من اللقاءات تم التوقيع على اتفاق في النمسا في 2015 ينص على إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بشكل تدريجي ومشروط مقابل تخفيض إيران قدراتها النووية لعدة سنوات.
ولكن بتأييد من بنيامين نتنياهو والسعودية، انقلبت أمريكا على الاتفاق، وقرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 8 أيار 2018 انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الذي وصفه بأنه “أسوأ الاتفاقات” التي وقعتها الولايات المتحدة، وقرر فرض عقوبات اقتصادية ومالية من جديد على طهران.
اتخذ ترامب هذا القرار رغم الضمانات التي قدمتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول أهداف البرنامج النووي الإيراني، لكن الإدارة الأمريكية لم تكفّ عن اعتبار إيران بلداً يهدد الأمن الدولي، ويتدخل في ملفات لا تخصه كالملف السوري، واليمني، والعراقي، وأيضاً في لبنان.
لا شك أن الثورة الإسلامية في إيران أحيت ثقة الشعوب بنفسها، وقدرتها على الوقوف في وجه الطواغيت والديكتاتوريات، وفي وجه الهيمنة الأمريكية، في الواقع جاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران ليعيد التوازن إلى المنطقة، وليكون سداً منيعاً تعاظم وكبر مع الأربعين عاماً في وجه المشروع الصهيوني.