الثقافة.. أحوال ووقائع
مئات التعريفات وضعت لها، كلٌ حسب وقوعه في مضمار من مضاميرها المتسعة والمتشعبة، الثقافة التي يتم حصرها- بجهل أو بدونه- عموما في الشؤون الأدبية والفنية اليوم، وما تلك الشؤون إلا خطاً من خطوطها الطويلة المتعرجة، وهي تختلف باختلاف المعارف والشعوب والأمم كل حسب مكوناته الشخصية مبدئيا، تلك التي تنسحب من العام إلى الخاص.
ويمكن أن تكون الحالة عكسية، أي من الخاص إلى العام، فكل نتاج ثقافي أو أغلب النتاجات الثقافية، تبدأ بشكل مفرد قبل أن تتطور بمرور الزمن، وتصبح حالة عامة، ويمكن ضرب العديد من الأمثلة على ما تم ذكره مثل الفلسفة، التي تبدأ كحالة فردية ثم تتطور لتصبح حالة عامة، (البراغماتية والكلاسيكية والوجودية، الوضعية، المادية وغيرها)، حتى وإن كان كل مذهب فلسفي قائم على أنقاض فكر فلسفي سبقه، فالثورة البلشفية مثلا، قامت أساسا بعد علو شأن الماركسية على حساب المذهب التعبيري أو الرومانسي وغيره.
أيضا يرتقي مفهوم الثقافة في الوعي الجمعي لتصبح لديه وفي أعماق وجدانه:(توليفة الطرق المختلفة التي يتبعها الناس في مختلف مناطق العالم والتي تصنف خبراتهم وتجاربهم وتوضحها، كما تؤثّر بشكلٍ فعالٍ في إبداعهم في تصرفاتهم المختلفة)، وهي بذلك ليست محصورة في الكتب وفي أنواع الفكر الإنساني وعلومه المعرفية، فالأزياء وطبيعة اختلافها من مكان جغرافي لآخر ثقافة، حتى الشتائم لها ثقافتها، الحروب وكذلك السلم، السلوك العام في شأن بسيط كشأن الطعام وثقافته النابعة من بيئته كذلك الأمر، فبينما تصطاد العديد من القبائل التي لم تزل غائبة في غياهب “الأمازون” القرود لتأكلها، تجيء منظمة حقوق الحيوان لفرض ثقافتها المرفهة على أولئك المساكين، الذين لا حول ولا قوة، إن لم يصطادوا فلن يأكلوا ببساطة؛ وبينما يأكل اليابانيون بالعصي، تستعمل شعوبا أخرى الملعقة والشوكة والسكين، والأمثلة لا تحصى، إنه مصطلح واسع يشتمل على الكثير من موجودات الحياة، ويمكن أن ينسحب على الموجودات والغيبيات، حتى أنه ينسحب على الحياة والموت، فثقافة أهل الهند مثلا، قائمة على حرق جثامين موتاهم وزر رمادها في نهر الغانج، على عكس ثقافة الدفن عند العديد من الشعوب؛ أيضا الأخلاق ثقافة وهي كغيرها من أنواع الثقافة نسبية، فما يتخلق به، وفي دائرة أضيق، تختلف ثقافة قائمة الطعام السورية عن الخليجية، وعلى هذا المثال ونسبيته، يختلف مفهوم الثقافة من شعب لآخر، ومن أسرة لأخرى، ومن فرد لآخر، وإن كان ثمة تعريف جامع لها بوصفها (سلوكا اجتماعيا ومعيارا من المعايير في المجتمعات البشرية)ـ فثمة العديد كما أسلفنا من التعريفات المختلفة، والتي غالبا ما تحصرها في حالات محددة، أغلبها صار يقع في خانة الآداب والفنون، باعتبارها انعكاس تلقائي ومصطنع معاً لحالة المجتمعات التي تنتهجها، فمن غير المعقول أن تذهب الدراما المحلية مثلا، والتي تم تأسيسها بالتعب والشدة وصعوبة الظروف التقنية، التي كانت غائبة في الماضي القريب، -خمسينيات القرن المنصرم-لتقلد الدراما المكسيكية أو التركية المدبلجة، بعد أن كانت الدراما التلفزيونية السورية هي الرقم الأصعب في العالم العربي، حتى في تفوقها على الدراما المصرية العريقة، الخطير بالموضوع، أننا وبعد أن أنجزنا ما انجزناه في هذا القطاع الإبداعي، صرنا نلحق الموضة السائدة بكل تفاصيلها ، لتقدم درامانا في بعض أعمالها، حكايات القتل والخيانة وغيرها من الأمراض الاجتماعية، عدا عن الحروب المتبادلة بين ذلك المذهب الفني وغيره، حتى بين الأشخاص ذاتهم، كأعمال البيئة، التي كانت رسائلها المبطنة، خصوصا في تسييس القضايا الاجتماعية، هذا في حال اعتبرنا أن سوء الفهم -هذا إن صفينا النية- ولم نقل أن الأمر برمته مخطط له، كما تكشف فيما بعد، مما لم يكن موجودا لا في مجتمعنا ولا في ثقافته، تلك التي صنعتها أجيال ممتدة في عمق التاريخ، ومنذ بداية الكتابة وتدوين المنطوق، فمثلا جاء مسلسل “أيام شامية”، كرد عنيف على مسلسل أبو كامل، وبينما تحضر “اليوتوبيا” الدينية والاجتماعية في الأول، تحضر الجريمة والعقاب والظلم في الثاني، وهذه كانت دلائل اندلاع مواجهة درامية، ها نحن نرى العديد من أشكالها على أرض الواقع، فالدراما عموما محاكاة باتجاهين، من الواقع إلى الورق، ومن الصورة أو المشهد إلى الواقع.
اليوم لدينا مشكلة هامة وخطيرة خطورة الحرب نفسها، بما يخص ثقافة المجتمع الواحد، والتي يجب أن تترفع عن التفرقة بأي شكل حضرت به، فالمجتمع المحلي يضم العديد من الإثنيات والطوائف، التي كان حالها واحدا في الحقوق والواجبات، وإن كانت ثقافة وفكر كل عرق أو دين هي من يملي على الفرد مفردات حياته في مجتمعه، فنحن إذا أمام مجتمعات مختلفة، لا مجتمعا واحدا، إن هم بالنهوض هم الجميع به، وإن حدث ووقع، فسيقع الجميع معه، وكان أن اختبرنا كسوريين هذه الحال بالطريقة الأكثر صعوبة ومشقة وتكلفة بشرية ومادية.
العمل اليوم خصوصا في المنحى الثقافي، من المفترض أن يركز على توحيد هذه الثقافات المتنوعة والتي يُغني تنوعها البلاد، في حال كان تنوعها سببا من أسباب الرفعة والسمو، لا الفرقة والخلاف، وهذه الثقافة لا تأتي بين يوم وآخر، إنها نتاج مضنٍ وتراكمي لوعي عام يصبح جزءا من طرائق تفكيره، وضربنا مثالا عن حال الدراما التلفزيونية وهو غيض من فيض، وماذا يمكن أن نفعل لتكون باعتبارها أهم وأسرع طريق للولوج في ضمير المجتمع، وتقديم ما يلزم من نشاط فكري ثقافي نضعه في خدمة هذه القضية.
اليوم من الهام والضروري والأكثر أولوية، أن نوحد الثقافة العامة المحلية والمزاج العام لهذه الثقافة المتشعبة، ولتبقى المعتقدات الخاصة، خاصة وضمنية فقط.
تمّام علي بركات