الظنون.. الواهمة!
حسن حميد
أمران يتنازعان حياة المرء منذ الخليقة وحتى الانطفاء، أولهما التفاؤل ظنّاً أن الإنسان قادر على كل شيء، وأن الدنيا ملك اليدين بطيوبها ونعمها ومسراتها، وثانيهما التشاؤم ظنّاً أيضاً أن الحياة جهوم، عبوس، عش دبابير، ومكائد، ومنحدرات، وحفر، وأنفاس لم تعرف طعوم الإنسانية يوماً.
الأمران هما ظنّان، والظن لا يعول عليه، ولأن موضوعهما متسع قدر اتساع الدنيا، فإنني سأقصرهما على أهل الكتابة والإبداع، وكيف بدت عوالم الكتابة والإبداع لأهل الكتابة والإبداع في البدايات، أي حين كان الأديب، والفنان يتلمسان دربهما في خطواتهما الأولى، أو وهما يتحسسان مشاعرهما تجاه نصوصهما وهي تتمظهر أمامهما إما كتابة أولى، وإما نشراً للمرة الأولى. كثيرون يتفاءلون فيظنون أنهم، ومنذ النص الأول، أو الكتاب الأول، اخترقوا حاجز الإبداع المحلي، والإقليمي، والعالمي، وأنهما غدوا، عبر كتاباتهم الأولى، طفرة جديدة غير مسبوقة، وظاهرة أدبية/إبداعية جديدة تماماً.
بعض هذا الظن، مع هؤلاء الكتّاب والمبدعين، ستسنده الذات الواهمة التي لم تعرف أبعاد الموهبة الأدبية التي تمتلكها، ولم تعرف ضحالة ما كتبته، لأن الغرور، والظن، وروافع الاستعلاء حجبت عنها ما قدّمته الأجيال السابقة من إبداعات وكتابات في هذا المجال، سواء أكانت هذه الأجيال السالفة قريبة ومحلية، أم كانت بعيدة وعالمية، إن ضحالة الذات الكاتبة هنا، ووهم الظن الكبير الحاجب للرؤيا الصحيحة هما من يجعل التفاؤل عبثاً، وزبداً، وقشاً ليس إلا! لهذا لابدّ للتفاؤل من أن يستند إلى قوة ذاتية داخلية ذات عين نفوذ تعرف ما قدمته الأجيال السابقة، وما تقدمه الذوات المبدعة المجايلة لها بعيداً عن قولات الآخرين المادحة كذاباً ومجاملة، وبعيداً عن قولات الأنصار الذين لا يعرفون شيئاً. والأسماء الأدبية والفنية التي عرفت مثل هذا التأييد الكاذب كثيرة، لأنها انطفأت وتوارت ونسيت بمجرد رفع تلك المظنونية عنها، فتهاوت أو تلاشت مثل أوراق لعبت بها الرياح الهوج.
وبالمقابل هناك ذوات إبداعية، كانت بداياتها ملأى بالتشاؤم والعقبات والمخاوف والظروف الصعبة، فظنت أن الجهات أمامها مسدودة، والأبواب مغلقة، والوصول إلى أبسط الأحلام وأدناها مستحيل، وهذا السلوك أيضاً غير صائب لأن الإبداع وما يسنده من موهبة وثقافة، هو الذي يحفر دربه. وللتدليل على ما يفعله التفاؤل الساذج، والتشاؤم المبالغ به، علينا أن نقرأ سير حياة الأدباء والمبدعين، في أي مجال من مجالات الابتكار والاشتقاق، خذوا سيرة أديسون الملأى بالإخفاقات وحالات الإحباط المتكررة، ثم انظروا إلى ما خلّد اسمه. خذوا همنغواي وما عاشه من حرمان بعيداً عن المدارس وعالم الشهادات والكتب، وما وصل إليه من شهرة عالمية، ونزوع إنسان لا يمكن تجاهله، خذوا دوستويفسكي الذي بدأ بكتابة (ذكريات من منزل الأموات) في سجنه الذي سيقوده إلى الحائط كي يعدم، وهو لم يحلم يوماً أن يكون كاتباً، كان يكتب كي يقهر الوقت قبل أن تصل إليه لحظة الاستدعاء إلى الحائط، ليقف، ثم يعدم، فغدا سارد الأدب العالمي الذي أذهل كل من عرفه. خذوا الدكتور عبد السلام العجيلي الذي دفعته بيئته وموهبته لأن يكون طبيباً نايفاً في المكانة والحضور على مجايليه، طبيباً وحيداً في رقعة جغرافية شديدة السعة، ثم يمضي إلى عالم السياسة نائباً ووزيراً، لكن ما خلّده هو أدبه، وموهبته الفذة التي أنتجت شعراً مدهشاً، وسرداً لا يكتبه سوى العجيلي، أليس في هذا عبرة كي نعي الأمرين معاً: التفاؤل ما يحتاج إليه من مؤيدات، والتشاؤم وما يحتاج إليه من طعوم الأمل، والقول: إنني قادر، وسأصل!
HASANHAMID55@YAHOO.COM