عندما نتغاضى عنها مخالفة القانون تهدد المنظومة التربوية والاجتماعية.. والمسؤولية تلاحق “المحسوبية” وضعف الأداء
عدم التزام المواطن بالقوانين بكافة أنواعها على مختلف المستويات بات أكثر حضوراً في المجتمع، بل يمكن اعتبار هذه الحالة من أكبر التحديات التي تواجه عملية الإصلاح لكونها تهدد منظومة المفاهيم والقيم الاجتماعية والتربوية التي أخذت بالتبدل، أو بالأحرى بالانحدار لناحية قوننة المخالفة وشرعنتها اجتماعياً تحت مسمى الشطارة والفهلوية، فهل يعود ذلك لغياب الثقافة القانونية والوعي، أم أن منظومة القوانين أصبحت عاجزة عن مواكبة المستجدات، عدا عن المسؤولية التي تلاحق المؤسسات المعنية بتطبيق القانون بتهمة التقصير وضعف الأداء؟.
ظاهرة تتفاقم
بالعودة إلى عدد المحاكم والدوائر الرسمية نجد أن ظاهرة عدم الالتزام بالقانون تتفاقم وتتزايد بشكل ملحوظ في ظل “الأزمة”، وتأخذ العديد من الأشكال كالاعتماد على “المحسوبيات”، أو “العنتريات”، أو استغلال الصفة والمنصب في معظم المعاملات، وأصبح ذلك مفخرة لدى بعض أفراد المجتمع على مبدأ “خالف تعرف”، وقد يجنح للمخالفة والتجاوزات رغم معرفته بآثار ذلك سواء عليه، أو على المجتمع عموماً، وحتى على القيم والقوانين الأخلاقية، على الرغم من أن مواطننا يكون أنموذج للاقتداء بالقوانين خارج القطر وبشكل لافت ومميز.
وقائع مهولة إعلامياً ونظرياً
نلاحظ من خلال متابعة الصحافة وكافة وسائل الإعلام المحلية أخباراً لافتة وعناوين كبيرة مثل: “كشف شبكة للتهريب”، “إحالة موظف إلى القضاء المختص بتهمة اختلاس عشرات أو مئات الملايين”، “إقالة مسؤول من منصبه لكثرة سلبياته وتجاوزاته”، ولكن بالمقابل الإعلام لا يتابع المحصلة والنتيجة النهائية، والآثار لما ذكر آنفاً، فقد تتم تبرئة أولئك قضائياً بسبب استغلال ثغرات القانون، أو قصور بعض مواد القانون عن تجريم الشخص المذنب، وفرض العقوبة الرادعة المتوافقة مع جرمه، أو بسبب ضعف الأدلة وسوء إعدادها من قبل الجهات المختصة مثل: ضعف ضبوط الإفادة وعدم إحاطتها بالوقائع الجرمية بشكل كامل ودقيق، أو افتقارها للمبادىء والقواعد المنصوص عليها في قانوني البيّنات والضابطة العدلية، وبشكل يشتت العدالة ويوحي بأنها غير صحيحة، أو قد يتم توقيف أولئك لمدة قصيرة، ومن ثم إخلاء سبيلهم تحت المحاكمة، “محاكمتهم طلقاء” قد تطول لدرجة نسيان المجتمع للجريمة، أو تقاعد الموظف من عمله برمته، أو شمول الجرم بمراسيم العفو الصادرة لاحقاً، أو حتى عودة الموظف إلى عمله مجدداً واقترافه جرائم جديدة بحق المال العام والمصلحة العامة بعد اعتياده الاستهتار، واستغلاله غياب الرقيب والحسيب، وقصور التشريع، فقد تتستر الجهات الرقابية بمختلف أنواعها على المجرم منذ اقترافه للجرم ولفترات طويلة “كالتستر على موظف يختلس عشرات أو مئات الملايين على مدار عدة سنوات، ومن ثم التظاهر بانكشاف أمره، ويكون ذلك الموظف المختلس راضياً بمصير خطط له مسبقاً، لأن العقوبة ستكون بسيطة وغير رادعة بعد أن نجح في جني مقدرات الوطن لمصالحه، بل ويستفيد أحياناً من الأسباب المخففة القانونية، في حين أن ما ارتكبه يجب أن يصنّف من قبيل الخيانة العظمى حتى يكون رادعاً للجميع بعدم تكرار حدوث هذا الجرم الخطير والمدمر، ويبرز الخطر الأكبر في تحول الفاسدين إلى قدوة لغيرهم!.
أثر الأزمة
بالعودة إلى إحصائيات المجموعة الإحصائية السورية نلاحظ بشكل لافت انخفاض عدد الدعاوى المفصولة قضائياً، وهذا يبرز دور الأزمة في إفلات أعداد كبيرة من الجناة من المحاسبة، حيث كان مجموع قضايا الجنايات بمختلف أنواعها 9055 قضية بحسب إحصائيات عام 2011، انخفض عددها إلى 3857 في عام 2016 (أحدث إحصائية منشورة) ، وبلغ مجموع القضايا الجنحية 95829 قضية في عام 2011، انخفض عددها إلى 37818 في عام 2016، بينما نشاهد ونسمع بازدياد معدلات الجريمة بكافة أنواعها، وتزايد خطورتها في مجتمعنا في ظل الأزمة.
حضرتك من أين؟
أبو أحمد، سائق سيرفيس على أحد خطوط دمشق، روى لنا أنه خلال عمله كسائق في إحدى الدول المجاورة تجاوز عدة مرات قوانين السير التي تطبق بشكل صارم لديهم، وفي كل مرة كان يبادره شرطي المرور بالسؤال: “حضرتك من أين؟”، وبشكل يعبّر عن ثقة الشرطي بأن مواطنيهم اعتادوا التقيد الصارم بقوانين السير، والغرباء فقط هم من يخالفون، وأكد أبو أحمد أنه في كل مرة كان يتم فيها تعديل قانون السير، ورفع قيمة المخالفات في بلدنا، كان ذلك لا يلقى الترحيب أو الأثر الجيد لدى الكثير من السائقين رغم أهمية ذلك وأثره الإيجابي على الجميع، وحمّل المسؤولية في مخالفة القانون للمواطن، وقلة ثقافته القانونية وإدراكه مدى خطورة مخالفة القانون.
نظرة تشاؤم
إن معظم المواطنين غير ملتزمين بتطبيق القوانين على كافة الأصعدة والمستويات وفقاً للمحامية الأستاذة راميا قاسم من فرع نقابة المحامين بطرطوس، ومرد ذلك انتشار الفساد، وسوء الوضع المعيشي بالدرجة الأولى، وفي بعض الحالات تقوم الجهات المعنية بتطبيق العرف بدلاً من تشريعات القانون بشكل يخالف النص التشريعي صراحة، رغم أن تطبيقه ملزم، وعدم التعامل مع بعض المسائل والقضايا بصورة موضوعية، كما تقوم بعض الدوائر الرسمية والإدارات بالالتفاف على نصوص القوانين والمراسيم من خلال إصدار قرارات وتعليمات تنفيذية تفرغها من محتواها، وتبعدها عن الغاية التي صدرت من أجلها لأسباب عديدة، واستبعدت المحامية قاسم وجود حل للمشكلة في المدى المنظور.
عدم التطبيق العادل
لن يلتزم الجميع بتطبيق القانون إلا في حال تطبيقه على الجميع دون استثناء، هذا ما أكده المحامي الأستاذ محمود جحا من فرع نقابة المحامين بدمشق، فإذا خالف شخص متنفّذ إشارة المرور بسيارته، “على سبيل المثال”، فإن أي مواطن آخر سيقتدي به، وبالتالي الجميع سيخالفون القانون، ورأى أن الحل الوحيد والأمثل يكمن في تطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
آراء مختلفة
مجموعة كبيرة من المحامين وأعضاء المنظمات الحقوقية أشاروا إلى أن “الجهل بالقانون”، وغياب الثقافة القانونية عن مناهج مؤسساتنا التربوية، وعدم تربية الفرد على “احترام القانون” من قبل عدد كبير من أسرنا، عوامل ساهمت بإيجاد مواطن غير ملتزم بتطبيق القانون، ودعوا لإدخال الثقافة القانونية ضمن المناهج بعد أن طرحوا الفكرة في العديد من اجتماعات نقاباتهم، والمحافل الحقوقية المختلفة كحل ضامن للمشكلة، وأكدوا على أهمية تدريب رجالات القانون وتأهيلهم بصورة عملية للتعامل مع كافة القضايا والمسائل القانونية لتطبيق نصوص القانون عليها بشكل موضوعي وجيد، والوصول للعدالة التامة في كافة مؤسساتنا، إضافة إلى ضرورة تعديل بعض القواعد القانونية القديمة التي تسبب العديد من الإشكالات مثل: “الدافع الشريف وجرائم الشرف” في قانون العقوبات السوري التي حدت بالكثيرين إلى قتل أخواتهم أو بناتهم فقط للاشتباه بسمعتهن، أو قتلهن لأسباب عادية، ومن ثم الهروب من العقوبة تحت بند “جريمة شرف”، ورغم تعديل تلك المادة عدة مرات إلا أنها بقيت تراعى وتطبق بشكل يساعد المجرم ويراعيه، أو مثل قاعدة “المانع الأدبي” التي تنص على التعاملات بين الأقارب دون وجود عقود أو إثباتات مكتوبة، وهذه القاعدة تسبب ضياع حقوق الأقارب عند نشوب الخلافات فيما بينهم مستقبلاً، وتتكرر هذه الظاهرة بشكل كبير وملحوظ، وتأخذ حيزاً ملموساً من عدة قضايا في معظم المحاكم، وقد أشار بعضهم إلى أن القانون في بعض الحالات يطبق بصورة جائرة تسبب استياء أفراد المجتمع من تطبيقه مثل “ضبط موظف يحصل على مبلغ 50 ل.س زيادة عن التسعيرة الرسمية عند بيعه استمارة للمراجع”، في حين يتم التغاضي عن موظف يختلس مبالغ مالية كبيرة من مقدرات الوطن، ويترقب المواطن محاسبة المختلس قبل صغار المرتشين، وجعلهم عبرة لغيرهم.
انخفاض المستوى المعيشي
انخفاض المستوى المعيشي، وضعف الوضع الاقتصادي ساهما في عدم تطبيق المواطن للقانون، بحسب المرشد الاجتماعي الأستاذ أحمد محمود، وبرزت بوضوح مخالفات التموين والتسعير، ومخالفات البناء والرشاوى وعدم الحصول على التراخيص من الجهات الإدارية، بل وتجاهلها، والتهرّب الضريبي من قبل التجار وحتى الشركات، وأكد محمود على ضرورة رفع الرواتب والأجور، وتحسين الوضع المعيشي لضمان سيادة القانون.
ماذا بعد؟
نخلص إلى مجموعة من الحلول لضمان التزام المواطن بتطبيق القانون، يأتي في مقدمتها الاهتمام بالتربية الأسرية للفرد، وتحسين الواقع المعيشي للمواطن، والعناية بتدريب المعنيين بتطبيق القوانين، وتطوير القوانين بشكل يضمن تحقيق الجزاء العادل والرادع، وتحقيق التكامل بين المواطن والمشرّع من خلال إزالة الهوة بين النص القانوني وتطبيقه على أرض الواقع، ويجب علينا حالياً تعزيز تطبيق القانون بصورة موضوعية تبتعد عن كافة الأهواء الشخصية التي تطبق القانون على مقاس الأشخاص ونفوذهم، ومسؤولياتهم لتحقيق المستقبل الأفضل والأمثل لوطننا.
بشار محي الدين المحمد