“رصاص في حمص القديمة “.. قصص حب انتصرت على الدمار
بالتأكيد على عنوان أي عمل إبداعي، يأتي من باب المدلول الرمزي أو التعبيري ليكون ومنذ البداية عتبة دالة للولوج إلى عمق النص الأدبي. فالعنوان هو من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية، نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة. ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى، وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة. في رواية:(رصاص في حمص القديمة).
للأديب عيسى إسماعيل. نحن ومنذ العنوان الواضح أمام عمل روائي يتحدث عن الحرب والرصاص في حمص القديمة جدا، يضاف إلى ذلك لوحة الغلاف التي صورت الساعة القديمة ومدخل حي الحميدية بحمص،حتى لوحة الغلاف التي لم يذكر اسم مبدعها! جاءت اللوحة قريبة جدا من الصورة الفوتوغرافية لكنها مرسومة بالألوان المعبرة عن الدم والخراب والدمار. وهي بذلك جاءت متكاملة مع دلالات النص الروائي الواضح والصريح، لتعلن لقارئها بأنه أمام نص روائي يتحدث عما جرى في أحياء حمص القديمة. هذه الرواية الصادرة حديثا عن دار الينابيع توثق وتؤرخ لثلاث سنوات عاشتها بعض أحياء مدينة حمص القديمة.
وعندما نقول أنها تؤرخ ليس من باب التأريخ بل من باب التاريخ الذي وبرغم مرارته وقسوته وبشاعته، إلا أن الروائي عيسى إسماعيل ومنذ البدايات جاء مكملا لمشوار نافذة الأمل التي أزاح عن زجاجها ستائر العتمة والدم والحزن والانكسار والخيبة، حتى وان اخترقها رصاص الغدر.
في هذا النص الروائي نحن أمام رواية تدون يوميات حرب شرسة وجائرة، رواية نسجت من كواليس أحياء حمص القديمة حكايا لبشر من لحم ودم عاشوا وعانوا الكثير ودفعوا ضريبة الحرب. هذه الرواية تنتمي لروايات الحرب والتاريخ، وهذا ليس فعلا سينتهي عند انتهاء الحرب في أي بلد كان، أو في أي دولة كانت. نظرا لما يتسم به هذا النص الروائي من صدق وتأريخ وشخصيات متناقضة ضمن إطار البنية الروائية من حيث الحبكة والنسيج الدرامي لتسلسل الأحداث، ولعنصر التشويق وتلك الصياغة المليئة بجمل وبعبارات ومشاهد تضفي بل أضفت على الرواية الكثير من الاشتغالات على مستوى السرد ومتانة الحوار. اشتغالات على مستوى الانسيابية والاختزال المدروس بعناية فائقة من حيث البناء الدرامي للفعل ورد الفعل، وللحوار الممنهج والمتقن بين شخصيات الرواية، الشخصيات السلبية مثل شخصيات المسلحين التكفيريين الإرهابيين (راكان، الذي يغتصب إيمان بعد أن خطفوها، يقول لهم: (أنا لست أنانيا، كلنا نشتهيها بالحلال، كلنا إخوة وأنتم مساعديّ، أرى أن أقضي وطرا منها ثم أطلقها ثم تكون لأبي هريرة، ثم يطلقها فتصير لأخينا أبي حفصة، ولك الخيار يا أبي حفصة بشأن مصيرها.) ص40. يقابل هذه الشخصيات السلبية شخصيات إيجابية كثيرة تأخذ دورها المناسب في صيرورة وسيرورة الفعل الروائي كمنجز يتماهي مع الفعل الروائي.
اعتمد الروائي في روايته هذه على طريقة (الفلاش باك) الخطف خلفا، وهذا التكنيك الروائي تحف به الكثير من المحاذير نظرا لاعتماده على خبرة ثرة وغنية إذ ليس من السهل استدراج القارئ إلى كمين الاستمرارية في عقد شراكة مع المتلقي للجملة الأخيرة من الصفحة 109، لنلاحظ هنا المجازفة بالقارئ الذي هو ومنذ العنوان كدال على محتويات النص الروائي إلى لوحة الغلاف الخ. لكن الروائي عيسى إسماعيل نجح هنا في إلقاء القبض على قارئه متلبسا حتّى النهاية, بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين ترك النهاية مفتوحة، ومشرعة على أكثر من نهاية، ليكون القارئ شريكا فاعلا ومؤثرا في صياغة المشهد الختامي للرواية. فـ “إيمان” الطالبة الجامعية التي تربطها علاقة حب مع زميلها الجامعي (عبدو) يلتقيها في نهاية الرواية، بعد بحثه المضني عنها بلا جدوى وهي التي تم اختطافها وتغتصب, نلاحظ أنه منذ البداية وكما أسلفنا، ومن حيث البنية الهرمية للرواية أن الخطف خلفا كان هو بوابة الدخول إلى سرداب هذه الرواية المثخنة بالجراح والدماء وبنافذة الأمل. إيمان كانت البداية وكانت النهاية، وكانت تابوت الأمنيات لـ(عبدو) العاشق والقربان لحمص المدينة التي نزفت مثلما كل المدن السورية، وتعافت مثلما الوطن تعافى.
منذ الصفحة الأولى من الرواية سيكون حضور إيمان كمعادل روائي لبناء متن لشخصيات الرواية إلى الصفحة الأخيرة من عمر الرواية. (ثمة امرأة وافدة إلى الدار – دار الإيواء- تحمل شيئا ملفوفا بيديها الاثنتين، وصلت هذه الظهيرة تتقدم بخطوات مرتبكة نحو الباب الرئيس للدار، وثمة امرأة كهلة تتقدم بحذر لملاقاة الوافدة الجديدة تقترب منها، تتفرس فيها تندفع نحو المرأة الكهلة، تجهش بالبكاء وتقول: “أمي أنا إيمان يا أمي.) ص7.
في هذه الرواية التوثيقية والواقعية والتاريخية والتعبيرية، نجح الروائي عيسى إسماعيل في تسجيل ذكريات عن مدينة ينتمي إليها، تألم كثيرا لنزفها وفرح كثيرا بعودتها معافاة ومتألقة.
في المشهد الأخير من الرواية تركنا على بوابة نهاية مفتوحة مشرعة لعدة احتمالات. (لست إيمان من قال لك أنني إيمان. – أنا عبدو يا إيمان، عبدو لاتمزحي.
– تسرع في خطواتها يمضي وراءها.. في طريق مغطى بالأشجار، ترسم بؤر الشمس المتسللة مابين الأغصان بقعا عليه، ينتفض ويصرخ: إيمان.. إيمان) ص 109 –
أحمدعساف