“طعم أسود رائحة سوداء”.. خلف الجدار القريب عالم آخر غريب
“قبل أن أمضي كضربة ريح، كان هناك حدث لا يمكن للإبرة تشكيل خيوط حبكته بدون الرجوع إلى حركة خيطه الأولى. ليلتها لم أقم سوى بتتبع خيط الرائحة الحارة لا أكثر، تذكرت أثناءها قصة الملك شمسان والمزين مرجان التي روتها لي أمي مجدداً قبل ليلتين، لكن ما شدني إلى جماله كان أكثر من خيط القصة.
الملك شمسان أحب ابنة المزين مرجان فتزوجها، وفي صباح اليوم الثاني، وجدوه تحول إلى دود”.
هذا ما يتذكره “عبد الرحمن/ أمبو” وهو يروي حكايته، الفتى المتمرد الهارب من قريته إثر علاقة مع فتاة تنتمي إلى فئة المزينين، إذ الأمر مرفوض بالمطلق، يهرب إلى “محوى الأخدام” حيث لا حدود ولا قيود تقف في وجه علاقة كتلك التي مر بها في بداية سني حياته، في التاسعة من العمر حسب القيود الرسمية لكنه في الحقيقة كان يعلم أنه أكبر من هذا بكثير.
تحكي رواية “طعم اسود رائحة سوداء” قصة الفتى تلك التي يرويها بلسانه ويستعيد كيف تمت إقامة الحد الاجتماعي والشرعي على الفتاة التي اعترفت، بعد أن وشى جسدها بما حدث في تلك الليلة التي كلفت فيها برعاية الأطفال أثناء غياب الأهل لحضور مناسبة هامة في القرية.
يروي “أمبو” كيف استمر الجدل بين فقهاء القرية وعقّالها وشيوخها لعدة أيام إلى أن انتهت خلافاتهم حول القضية إلى قرار برجم الفتاة حتى الموت و”دُفنت مع الذي في بطنها، بعد أن تهشم رأسها وبقية أعضاء جسمها بالحجارة، التي راح كل من حضر المشهد يقذف بها نحوها، باستثناء أسرتها وأنا وعلي البشم”. لم يكن الفتى يخشى أن يكون مصيره كمصير الفتاة، لكن انتظاره لأجوبة حول ماحدث هو ما جعله ينسى أو يستحسن تجاهلهم أنه شريك في الجريمة. لكن تأثير قصة الملك شمسان أتى بمفعول عكسي إذ سيلتقي “الدعلو” شقيقة “جماله” الضحية، ويمضيان في هروب طويل إلى أن ينتهيا إلى “عشش الأخدام” حيث يكتسب اسم أمبو “اسم يطلقه مجتمع الأخدام على أي إنسان غير أسود”.
العمر الكافي
هنا في هذا المجتمع المنبوذ تتكشف أمامه بوضوح العلاقات الإنسانية لتثير في عقله الكثير من الأسئلة حول التاريخ والهوية ومعنى الانتماء والوطن، ويتساءل وقد شهد محاكمة الخادم رباش الذي ظهر في شخصية المثقف اليساري وهو يدافع عن نفسه أمام القاضي ليتفهم عبره الرفض الذي يسكن صدور الأخدام لكل من حولهم، إذ يبقى البعض في حالة رفض للاندماج مع المحيط، ويقابل آخرون عنصرية التعامل بآخر مثله، يقابل أمبو بسبب لونه الأبيض بالرفض والازدراء في محيطه الجديد، لكنه يشهد بأم عينيه الحال المزري الذي يحيط بأناس يعيشون هاهنا غير بعيد عنه، وتحاك حوله القصص المرعبة كأن يقال أنهم يأكلون جثث موتاهم، ولا يقومون بأعمال الدفن إلا تحت جنح الليل.
“لم يكونوا في العشش يرهبون الموت، حين يعلمون بوفاة رجل أو امرأة بلغا الثلاثين من عمرهما، أو أقل من ذلك ببضع سنوات، يعتقدون أنها كافية لعمر الخادم”.
بلغة سردية بسيطة رغم تداخلها مع بعض الكلمات باللهجة المحلية والتي يفهم معناها من سياق الكلام، بتلك البساطة يتناول الكاتب اليمني أوضاع فئة المهمشين في اليمن، وهؤلاء فئة تمتاز بلونها الأسود وبممارساتها المتمردة القريبة من مجتمع الغجر. فبالرغم من أنهم يمارسون مهناً وضيعة ومحتقرة من المجتمع الذي يحاصرهم بنظرته العنصرية تجاههم، إلا أنهم مع هذا يعيشون حياتهم التي لا يحكمها أي قالب أو نظام محدد، ويخرجون عن نطاق وتقاليد القوانين التي يحاول المجتمع المحيط أن يقيدهم بها. لهذا تأتي رواية “طعم أسود.. رائحة سوداء” للكاتب اليمني علي المقري على بساطة الحبكة ومحدودية المكان، صورة عن حياة أخرى لأناس مختلفين يعيشون على هامش المجتمع بكل جوانبه، ويتيهون بين قيم العدالة والحرية التي يسمعون بها والعنصرية التي يعاملون بها، والعنصرية المضادة التي يعاملون بها الآخر، كما تتناول الكثير من الجوانب المسكوت عنها في مجتمع “المهمشين” ويتطرق إلى خطر زحف المدينة بأبنيتها واقترابها من “محوى الأخدام” ويهدد استقرارهم.
مجتمعات موازية
بينما يكشف من خلال حوارات “أمبو” وصاحب المطعم عن أصول تلك الطبقة من الناس ويتطرق إلى طبقات اجتماعية أخرى “الجزارون والمزينة والدواشين والدباغين والحماميين وسواهم” من المجموعات المنسية والتي تواجه تمييزاً عنصرياً أشبه ما يكون بما واجهه العبيد في جنوب أفريقيا. ومن خلال سرد تلك التفاصيل المخفية والتي لا يمكن ملاحظتها إلا عبر التغلغل والدخول وسط تلك المجتمعات لإزالة الغموض الذي يحيط بها، وكشف خفايا تلك البيئة المجاورة التي يتم التعامل معها كأنها غير موجودة، أو أنها في أفضل الأحوال كائنات لا ترقى لمستوى البشر العقلاءّ! “في طفولتي كان الأهل يغرسون في ذهني أن “الخادم” كائن ناقص ولا يمكنه أن يكون نداً أو صديقاً ومن العار مصاهرتهم. كان أبي بالكاد يفك الخط، لم يكن من أنصار الحقوق المدنية، وكغيره كان يتعامل مع “الأخدام” كحقيقة أزلية ولا يخطط لدمجهم في المجتمع، لكنه أقدمَ على فعل استثنائي نعرف اليوم أنه سلوك مدنيّ أو مديني، هو نفسه لم يكن يعرف أن ما أقدم عليه سلوك مدنيّ يوم تزوج بخادمة وأنجب منها بنتاً سوداء.
عرف الجميع أن أبي تزوج بخادمة لكنهم تواطؤوا على أن يبقى الأمر سراً خصوصاً علينا نحن الأطفال. بعد أن كبرنا حدثتنا أمي عن زواج أبي وما زلتُ أذكر شماتة الأهل. لم يستمر زواج أبي طويلاً، لكن جدتي ظلت تردد: “يالله بحسن الخاتمة مُقبل تزوج خادمة”. توفت أختي من أبي وهي طفلة فكانت فرحة الأهل بذلك الخبر كبيرة، تدخل القدر لصالح ثقافتهم وكأنه يدرك حجم المعاناة التي ستعيشها لو أنها ظلت على قيد حياة التهميش والعنصرية”.
ورغم الاشتياق الذي يداهم قلب “أمبو” ويعتصر جوارح “الدعلو” إلا أن خيار البقاء كان أقوى، ليكونا عبر حكايتهما وقصة زواج الطبيب الحكيمي بفتاة من الأخدام، الحل الذي ارتآه المقري لهدم الجدار مع تلك التقسيمات الاجتماعية ومحاولة دمجها في محيطها الكبير، لتكون جزءاً حقيقياً منه وتحظى بحقوقها الطبيعية مع أن قارئ الرواية لا بد تراوده الشكوك بأن هؤلاء المضطهدين ربما هم أكثر حرية منه وممن يديرون شؤون البلاد.
مرحلة مفصلية
على أن الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث الرواية امتدت مابين 1975 و1982 وهي مرحلة زمنية حرجة ومهمة في تاريخ اليمن المعاصر، حيث اشتبكت فيها وتداخلت الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، كانت تحتمل الخوض فيها بشكل أعمق، إلا أن صاحب العمل تطرق إليها بخجل شديد ربما منعاً للتشويش على قضيته الأساسية في الإضاءة على عالم غريب وحياة مرعبة يعيشها الكثيرون في العديد من البلدان العربية، لتكون روايته تصويراً لانكسارات أحلام مجتمعات كثيرة تتوق إلى عالم لا تحكمه العنصرية والإذلال.
علي المقري 1966 كاتب وشاعر يمني لديه عدد من المجموعات الشعرية منها نافذة للجسد، ترميمات، يحدث في النسيان، وإلى جانب طعم أسود رائحة سوداء أصدر روايات حرمة وبخور عدني، وترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم.
بشرى الحكيم